في هذا الكتاب فلسفة مخرج سينمائي وجد في السينماتوغراف معملا يختبر فيه مكنوناته الفكرية والفنية، تلك المتأتية من خلفية ثقافية لها من الخصوصية والفرادة ما قاده لتجاوز بيئته وواقعه ليعبر عما يعتمر في دخيلته بلغة الصورة السينمائية، وما تنقله من منطوق فني حامل لمضامين مشتعلة ومتوترة تكاشف رفضه وغضبه وتعريته لمؤامرات الخفاء، وهي حتما لا تبرح حبه وولهه وأسئلته عن مفارقات السياسة والأحداث، ذلك كله بين تأويلات ناقد تنويري لا تعبره عطاءات الفن الجاد من دون تشريح من مبضعه النابه الذي لا يترك غورا إلا ويسبره ولا يتجاوز عملا إلا وينبش أحشاءه ليستجلي ما فيه ويحاكمه. هكذا يمكن تصنيف عمليات الحفر المضيئة للباحث المتبحر إبراهيم العريس في كتابه «من مكة إلى كان سينما عبدالله المحيسن»، الصادر حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2019م، الذي لا يمكن اعتباره كتابا عن أسلوب وتقنيات المخرج السعودي السينمائي الرائد عبدالله المحيسن فحسب، بل إضافة الى ذلك هو عن فكره ومنطلقاته ورؤيته ومضامينه التي بثها عبر أفلامه. يتقصي العريس تفاصيل من مسارات اجتازها المحيسن، بدأ من مولده ونشأته في مكة وتأثيراتها الروحانية والدينية لتصقل شخصيته العربية الإسلامية، ومنها يقف على تكوينه السيسيوثقافي الذي قاده لتحقيق أفلامه، وبما يشمله ذلك التقصي من تفكيك بنى أعماله بتأويلات تستحضر الزخم المعرفي والمعتقدي الأيديولوجي الذي يكتنزه بداخله، وذلك في أسلوب سردي تحليلي حميم، يلمس فيه القارئ مدى القرب الإنساني (الصداقة) والفكري (المعرفة) بين الكاتب والمكتوب عنه. أين ريادة المحيسن؟ ينطلق العريس من مراحل تكوين المحيسن، طفولته وشبابه وهو الرفيق المراقب لأكثر من أربعين سنة، واكب فيها مشوار صديقه عبر أفلامه التي حققها، ويقف على سيرته التي يبدو أنه رواها اليه بنفسه، أو هكذا يمكن الاعتقاد، أو ربما من خلال أحاديثه ومقابلاته الصحافية المتفرقة، رغم قلتها، إذا لم ينشر من قبل في مطبوعات ورقية أو الكترونية كثيرة شيء عن تفاصيل سير المحيسن التي ربطها المؤلف بشكل موثق بتاريخ السينما في السعودية، جاعلاً منه، بكل تأكيد ودون منافس، الرائد المؤسس لحراك السينما في السعودية بالمعنى الاحترافي لمصطلح الريادة. لذلك يبدأ العريس من سؤال: أين ريادة المحيسن؟ ويجيب: الريادة ترتبط هنا بالنوعية، وبمكانة العمل التاريخية وموضوعه، وقدرته على أن يعيش تاريخه في استقلال عن الظروف التي وجد فيها، وتقبل المتلقين له، ثم قدرته على أن يكون له تاريخ متواصل تفاعل معه... وهكذا ففي فيلمي «اغتيال مدينة» ثم «ظلال الصمت» تأكيد على مفهوم الريادة التي تبوئها المحيسن. تأثيرات وتكوين ثم يغوص العريس في النشأة الثقافية للمحيسن في مكة المقدسة، يتداخل مع تأثير التلفزيون والمنتج السينمائي المصري عليه، إبان المد القومي ورفضه له، ومن ثم مرحلة تكوين الدول العربية والاستقلال عن المحتل الأجنبي، مرحلة بروز الرغبة في تكوين الامة العربية والإسلامية. وما كان يمثل المد القومي الحقيقي الذي رآه المحيسن الا في جمع الشمل الذي قام به مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبدالعزيز آل سعود. يقول المحيسن: "كان الملك عبدالعزيز يدعم القومية العربية المبنية على أساسها الإسلامي، وليس القومية المنفصلة عنه. كان يؤمن بما كان يراه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب من أن العرب قوم أذلة أعزهم الله بالإسلام... نعم أنا نشأت في هذه البيئة وانغرست افكارها في نظراتي وتوجهاتي". سينما الضرورة الملحة مع فيلم «اغتيال مدينة» 1976م والذي يواكب إنجازه بدايات الحرب اللبنانية التي تشكل موضوعه لم يسجل المحيسن دخوله شخصيا عالم السينما بل سجل دخول المملكة للسينما، ولهذا فإن أي تاريخ للسينما في المملكة لا يمكن أن ينطلق إلا من اغتيال مدينة، وهنا يصف العريس المحيسن بأنه لم يكن مؤرخا بل فنانا لا ينظر الى فيلمه بوصفه عملا فنيا وحسب، بل لا يد أن يكون "جرس إنذار" موجه الى المتقاتلين أنفسهم، في أنهم يلعبون لحساب غيرهم دون أن يدروا. يباغت العريس قارئه بمصطلح لم يعهده من قبل، إذ يقول: في سينما المحيسن شيء يجعلنا نحس أمام كل فيلم من أفلامه، حتى بعد مشاهدتها عقب هذه السنوات الطويلة من إنجازها، بأننا أمام «سينما الضرورة الملحة»، أتت لتقطع عليه طريق تأملات عميقة، ليبدو الأمر وكأن كاميراه تعايش الاحداث والتقلبات وتقف مستعدة للتحرك، وهذا ما حدث مع «اغتيال مدينة» و«الصدمة» وتجلى بوضوح أكبر في فيلم «الإسلام جسر المستقبل» 1982م، فكان فيلم الضرورة الملحة بجدارة، إذ أخذ المخرج كاميرته وفريق عمله وتوجه الى أفغانستان ليصور ما يحدث من مقاومة إسلامية للغزو السوفياتي. يكشف العريس عن جوهر رؤية المحيسن في فن السينما، إذ يجيب المحيسن على سؤال وجهه إليه أحد الصحافيين عن دور السينما بين الشعبوية والنخبوية، فيقول المحيسن: "لغة السينما ينبغي أن ترتقي بالذوق العام وتبتعد عن التهميش والاسفاف في الطرح، ومع ذلك فإن السينما فن وقضية في آن معا، ولا أجد تعارضا بين أن تعالج السينما الموضوعات السياسية أو الشعبية. فلكل من هذه الموضوعات اهتماماته، ويعود الامر في الأساس الى اهتمامات المخرج، وأنا من ناحيتي وجدت نفسي مهتما بقضايا الانسان العربي والمسلم التي لم يتصد لها أحد في وطننا." فيلم الصدمة..الاكثر اثارة للجدل ليس لأن فيلم «الصدمة» 1991م عكس احداث غزو صدام للكويت في 1990م، من وجهة نظر معينة، بل لأنه وقف ضد تيار كان سائدا في العالم العربي، ولأن الفيلم صور ذلك التمزق العربي. هكذا يفسر العريس أهمية فيلم الصدمة، وبسبب طرح الفيلم الذي يكشف انحياز فريقين من المثقفين في العالم العربي بين تأييد للدكتاتور صدام حسين وبين رفض آخر لما أحدثه في انشقاق حقيقي في ثقافة الوحدة العربية. وهكذا راح فريق يطالب بأن يكون المحيسن محايدا بين المفتري والمفترى عليهم، وهذا لم يكن يرضى عنه المحيسن لنفسه. بتحقيق فيلم الصدمة تكون قد تكونت ثلاثية وثائقية لها منحى مشترك في الرؤية والتساؤلات والرفض أيضا، إذ نلمح، كما يقول العريس: نوعا من الغوص في "ال لماذا"، تلك الأفلام تقول لماذا يحدث كل هذا؟ وماذا جنينا من المطالبة بالحرية ومفاهيم التقدم. وهو أيضا ما ذهب اليه المحيسن من خلال فيلمه الروائي الطويل «ظلال الصمت» 2006م، أول فيلم سعودي روائي طويل، اذ تتحقق هنا ريادة الأولية التي تضاف الى ريادة الاحتراف السينمائي، والفيلم كما يقول العريس بأنه دخل تاريخ الفن السابع العربي، دخله بقيمته التاريخية ولخطابه الفكري وأسلوبه في تقديم الخطاب بشيء من تجديد في لغة السينما العربية ومواضيعها. الكتاب يكتنز بتحليلات مسهبة تنصف دور المخرج الرائد، ولن تتسع قراءة موجزة في ايفاءه، فيما يلقن درسا لصناع السينما السعوديين الشباب للتأمل في سينما المعلم عبدالله المحيسن.