تنطوي قصيدة النثر في حاضرها وذاكرتها على حيوات متفجرة، أوصلتها إلى أن تكون لغة العصر، بتلغرافيتها الكاشفة وتصويرها تفاصيل حركة الإنسان على الأرض. هذه القصيدة الجديدة، تأبى التشرنق حول ذاتها، بوصفها قصيدة حياة في المقام الأول، وتخوض معارك متتالية لإثبات حضورها في المشهد الشعري الراهن، كقصيدة مكتملة وليست ناقصة بوصف من يناصبونها العداء. ينعقد مؤتمر قصيدة النثر في القاهرة بمشاركة شعراء مصريين وليبيين، الأربعاء، معلنًا خوض الشعر الجديد معركة الوجود والهوية في مواجهة هيمنة المؤسسة الرسمية والأدب التقليدي والتيارات المحافظة. وينطلق “مؤتمر قصيدة النثر” في دورته الخامسة بأتيليه القاهرة من 19 إلى 21 سبتمبر الجاري، بجهود أهلية ومشاركة عربية، تأصيلًا لحضور قصيدة النثر في الحقل الشعري، وإيمانًا بقيمة الكلمة الإبداعية الحرة، وقدرتها على القيام بدورها خارج الاستقطاب المركزي والتوجهات السلطوية. منابر التحدي متوقع أن يشهد المؤتمر اشتعال معارك قصيدة النثر وتنظيراتها الفارقة، وعلى رأسها: هل يمكن اعتبار قصيدة النثر شكلًا أدبيًّا جديدًا أم تطورًا شعريًّا طبيعيًّا؟ وأين يبدو موقع هذه القصيدة في المشهد الإبداعي المصري الراهن؟ وإلى أي مدى تواجه معوقات من جانب المؤسسة الرسمية التي تُتهم بأنها تهمّشها ولا تعترف بها؟ تستحدث الدورة الخامسة محورين يبرزان انتقال المؤتمر إلى المرحلة الكيفية، هما: مسارات الشعر الجديد، وذاكرة القصيدة، حيث يلتقي شعراء ونقاد وأكاديميون من مصر وليبيا (ضيف الشرف) على أهداف تحرير القصيدة من نخبويتها، والوصول إلى المتلقي أينما كان، وفتح قنوات تواصل عربية. هذه اللقاءات، التي تستوعب أسماء لافتة في المشهد الشعري المصري، مثل حلمي سالم ومحمد فريد أبوسعدة، من شأنها أن تثري الحوار حول الشعر الجديد وتياراته وانعطافاته، بالتوازي مع الأسئلة الجوهرية التي يقترحها المؤتمر. ويأتي محور “ذاكرة القصيدة”، مثلما أوضحت الكاتبة هناء نصير عضوة اللجنة المنظمة ل”العرب”، ليترصد بعض تجارب الشعراء الراحلين، ومنهم شريف رزق، ومحمد صالح. ويستشف المؤتمر في أمسياته الشعرية المصرية والليبية، وجلساته النقدية، تقنيات النص المفتوح وأبجديات التجريب. يؤسس مؤتمر قصيدة النثر، الذي يديره الشاعر عادل جلال، ما يمكن تسميته ب “منابر التحدي”، تحت شعار “في الإبداع متسع للجميع”، لأجل استيعاب الشعر الجديد في العاصمة وأيضًا في مدن أخرى بغية بلوغ جمهور أوسع، وكسر ثنائية المركز والهامش. المجددون والمحافظون تبدو معركة الوجود والهوية التي تخوضها قصيدة النثر وجهًا من وجوه المبارزات الثنائية المألوفة على مر التاريخ بين المجددين والمحافظين، ويبدو منطقيًّا ميل الكيانات الرسمية إلى الأنساق المستقرة والسائدة. لكن، إلى أي مدى حققت قصيدة النثر ما تصبو إليه من تأصيل ذاتي وحضور مكثف؟ وهل تملك الإمكانات التحررية الكاملة حال تعرضها للتضييق والمحاصرة؟ الشاعر عزت الطيري لا يستنكر أيًّا من الأشكال الشعرية السائدة، بما فيها قصيدة النثر التي يراها شكلًا مستقلًا إلى جوار الشعر العمودي والتفعيلي، وقد تكون قصيدة نثر جيدة أفضل بكثير من القصائد العمودية المترهلة أو التفعيلية الثرثارة المقلدة. يقول الطيري إن قصيدة النثر عند روادها ومطوريها أمثال أدونيس والماغوط ووديع سعادة وشربل داغر وشوقي أبوشقرا، حققت إنجازًا كبيرًا، لكن الأجيال الجديدة “مشكلتها أنها اتجهت لقصيدة النثر مباشرة دون المرور بالمراحل التى مر بها جيل الرواد، وبعضهم لجأ إلى الغموض المفتعل ليغلف قصيدته بالتهويمات، كما أعطت مواقع الإنترنت وصفحات فيسبوك الفرصة للكتابة الرديئة، فاختلط الحابل بالنابل”. ويرى عزت الطيري أن قصيدة النثر في مأزق حقيقي، وعلى كتابها أن يخلصوها من مآزقها وكبواتها، خصوصًا أنهم لا يجدون المساندة من القائمين على المؤسسات الرسمية. ووفقًا للناقد عيد صالح، فإن هناك ما يشبه الانفجار الإبداعي في قصيدة النثر، كما لو كان شعراؤها في سباق مع الزمن، وهذا الأمر يكون في بعض الأحيان على حساب الشعرية، لأن قصيدة النثر بلا محدوديتها لا تقبل التأطير أو النمذجة كما يحاول البعض أن ينظر ويؤطر لها. ويشير الشاعر والناقد أحمد سراج إلى مآزق الشعر الجديد، بما فيه قصيدة النثر، ومن هذه المآزق انفصال لغة كتابته عن الواقع المعيش، ومزاحمة فنون أدبية وبصرية له، وعدم وجود اتجاه قومي للاهتمام بالنص الأدبي عامة، ما أضعف المتلقي ووجهه لتلقي أنماط تواكب ثقافته وطموحاته وهمومه. أما الجهات الرسمية التي تبدو مناهضة لقصيدة النثر، وتسعى إلى إجهاضها ووأدها في مهدها، فيصفها سراج بأنها “مؤسسات تحنطت بطريقة خاطئة ضد فن التحنيط وعلمه؛ ما أنتج مجموعة من المشوهين الباحثين عن دور وفرض وصاية”. الانحياز إلى الموسيقى يقول الشاعر والناقد أحمد غراب إن انحيازه لموسيقى الشعر، واصفًا إهدار البحور الشعرية والتفاعيل الخليلية في قصيدة النثر بانفصال عن الوجدان العربي. ولا ينكر غراب وجود قصيدة النثر باعتبارها إبداعًا جديدًا لا بد من تأمله طويلًا والتوغل فيه وفهم جزئياته، ويرى أن قصيدة النثر شعر مكتمل قائم بذاته، بقدر ما يحمل من الشعر، وبقدر ما يحرك العاطفة ويتغلغل في الوجدان. وينادي بضرورة تدارك ما يسميه “الموقف التاريخي المؤسف لكل الأجهزة الثقافية”، قائلًا للقائمين على المؤسسات الثقافية “ارفعوا أيديكم عن قصيدة النثر، أطلقوا العنان للقصيدة العمودية الحداثية، أعيدوا الساحة الشعرية لشعرائها الحقيقيين، بغض النظر عن الشكل الشعري”. أما الناقد أبواليزيد الشرقاوي، فيرى في قصيدة النثر قمة التطور الجمالي للشعر العربي، وهي ليست مجرد مرحلة من مراحل تطور الشعر التي شهدها عبر تاريخه الطويل، لكنها انتقالة نوعية وجمالية بالشعر من نمط إلى نمط، وفي المشهد الراهن تمثل النصوص الجيدة من قصيدة النثر قمة الإبداع الشعري العربي المعاصر. ويلفت الشرقاوي في حديثه ل”العرب”، إلى أنه على الرغم من كل المعوقات ومحاولات التهميش المفروضة على أشكال فنية وفنون أدبية معينة من الثقافة المعاصرة، ومنها قصيدة النثر، فإن هذه الأشكال والفنون “تتطور وتنمو بما فيها من قدرة على الحياة، بعيدًا عن الرعاية الرسمية من مؤسسات الدولة”.