منذ أن قامت الثورات العربية في المنطقة وكانت اللغة هي الهواء الذي يتنفسه الثوار في الميادين وهم يهتفون ضد أنظمتهم السياسية الفاسدة ، وتحققت وقتها مقولة العالم الاجتماعي العربي ابن خلدون بأن اللغة أدوات تشكل الحياة وثمة علامات ودلائل هي التي أكدت هذه المقولة مثل الشعارات التي كان ينادي به ثوار الميادين ، واللافتات التي كانت تعلو البنايات والمنصات التي شيدها كل من وقف بحزم وقوة وعناد أمام هراوات الأمن . وبمجرد أن بزغت شرارة الثورة الأولى حتى تحررت اللغة من قيود مرجعيتها المركزية المتمثلة في المجمع اللغوي أو المدرسة والجامعة وصارت ملكاً مشاعاً بين مستخدميها دون وصاية من مؤسسة أو فصيل لغوي يدعي لنفسه شرف الاستخدام . ومنحت الثورات العربية اللغة حق الاستخدام الفصيح لها دون رقابة أو متاريس هيولية تنصب أمام مستخدمها فصار شاعراً مرة ، ومرة أخرى تقمص دور الخطيب السياسي حينما رصد حالة وطنه بالشعار الأكثر تداولاً ( الشعب يريد إسقاط النظام ) وربما لأول مرة يكتشف مجمع اللغة العربية والمؤسسات التعليمية عجزها في الدور الذي لعبه الميدان في تطويع واستخدام اللغة وظيفياً لتحقيق مطامحه الثورية بعيداً عن النظريات اللغوية الكاذبة حيناً والتنظيرات المقتبسة والمسروقة من بيئات غير مماثلة حيناً آخر ؛ وتنوع النداءات الثورية بالميادين تجعلنا ندرك حجم التخاذل الأكاديمي في تعليم اللغة ، وفي الوقت الذي ظن أساطين اللغة أنها نظام معقد أعطى الثوار لهم درساً عميقاً في وظيفية اللغة وأنهم أكثر قدرة في إدارتها بل لقد تجاوز الثوار هذه القدرة إلى تطبيق نظريات اللغة حينما استطاعوا أن يعبروا عن مطامحهم وأحلامهم الثورية عن طريق كلمات محددة مثل : ارحل ، فلول ، محظورة ، يسقط ، كفاية ، الفرعون ، التوريث، العسكر، المرشد، وأخيراً الاستبن . وفي الوقت الذي أرهق فيه اللغويون أنفسهم في تجديد اللغة نجح الثوار بأطيافهم المتباينة وأيديولوجياتهم غير المتطابقة في تثوير اللغة حينما نجحوا في استقطاب الجماهير وإلهاب مشاعرهم عن طريق استخدام كلمات منفردة ولكن بطريقة ودلالة جمعية جماعية مثل كلمة (باطل) و ( عصيان ) و( إضراب ) و (العزل) وأيضاً حينما ابتدع شباب الثوار لغة مشتركة تمثل بعض المصطلحات السياسية الجديدة التي غفل عنها مجامع اللغة والمؤتمرات الهزلية التي كانت تعقد بالجامعات المصرية البعيدة أيام مبارك عن أي تصنيف عالمي والأكثر بعداً وغربةً عن أية محافل علمية أكاديمية بعد الثورة بفضل اللغط السياسي الذي ألقى بظلاله على مناح أخرى كالتعليم .. هذه اللغة المشتركة هي التي أفرزتها الحوارات المفتوحة التي كانت تنعقد بين الثوار في الميادين وهي جملة حوارات تمت بين أطراف متنوعة مشتركة في الهدف وهو إسقاط النظام الحاكم ومتباينة في المطامح والمطالب. فسمعنا عن كلمات مثل ائتلاف سياسي ، وتحالف ، ودولة مدنية . وربما لأن الشباب المصري الذي نشأ في ظل التعليم الوئيد طيلة ثلاثين عاماً لم يكن ممارساً للفعل السياسي بالصورة الطبيعية بل كان أغلبهم مجرد عرائس متحركة تظهر في انتخابات الجامعة ، لذا فكان هؤلاء أكثر عطشاً لممارسة السياسة بصورة حقيقية ولكن هذه الممارسة جاءت في ظروف استثنائية. وليت أساتذة اللغة المتوارين خلف مكاتبهم الخشبية العتيقة كانوا أكثر حضوراً بين ثوار الميادين وهم ينحتون ألفاظاً جديدة ويحيون كلمات ظلت خاملة غير نشطة لعقود طويلة من الاستخدام والعجب أن استخدام الثوار الشباب لهذه الكلمات جاء عن طريق المصادفة دون الالتجاء للقاموس ، فرأينا هؤلاء الشباب يرددون كلمات مثل الراديكالية وهم في استخدامهم لها يفرقون في ماضي الكلمة وحاضرها ، ماضيها الذي يعني تغيير النظام الاجتماعي والسياسي من جذورهما ، وحاضرها الذي يشير إلى التطرف والغلو وضيق التفكير. وأيضاً من المواضعات التي تستحق الرصد هو حديث الشباب الثائر عن الشرعية كمفهوم سياسي وأيديولوجية تقتفي أثر الديموقراطية ومحاولة إيجاد آليات مباشرة لتطبيقها . وأكاد أجزم أن أكبر أستاذ لغوي ممن تتلمذت على يديه لا ولن يستطيع أن يقدم لك توصيفاً نموذجياً لهذه الكلمة الساحرة مثلما استطاع هؤلاء الثوار أن يجسدوها في عبارات مستخدمين بعض أدوات النهي بغير كتاب كاشف مثل ( لا لحكم العسكر ) و ( لا ولاية للمرشد ) أو صيغة الأمر مثل ( عودوا لثكناتكم ) ، و أقول إن الفرق بين استخدام اللغويين والثوار للغة هو درجة الشرعية في الاستخدام ، فالأول استخدم اللغة بصورة فردية قاربها الظن والتشكيك أقرب من اليقين والثبات على خلاف استخدام الثاني لها ، بالإضافة إلى أن الميدان والثورة أعطتا اللغة قدراً هائلاً من الاستمرارية والتداولية في الاستخدام ومن ثم التجدد والخلق اللانهائي للمفردات. ثمة دوافع هي التي جعلتني أجتر بعضاً من ذكريات الممارسة اللغوية لثوار الميادين من أبرزها ما تقوم به الآن جماعة الإخوان المسلمين من محاولات جاهدة مستميتة بصور شتى مثل المنشورات والملصقات والصيحات الصوتية ؛ إن الجماعة ترتكب نفس أخطاء الماضي لا من حيث الممارسات السياسية فحسب ، بل من حيث المراهنة على فكرة الاستبعاد الاجتماعي لها من ناحية ، ولكافة الفصائل الثورية من ناحية أخرى، فهي لأنها لم تكن من أولى الفصائل السياسية التي نزلت إلى الميادين الثائرة لذلك فهي لا تزال بمنأى عن اللغة التي صنعها شباب الثورة ، ورغم ذلك تصر الجماعة على مخاطبة هؤلاء بنفس اللغة القديمة والتي لم تعد صالحة لزمان ومكان الميدان الثائر . وإذا كانت الجماعة قد أدركت أن تركيبة القوى السياسية في المجتمع المصري قد تغيرت بعد ثورة يناير ، فإنها لم تعي ولم تفطن حتى لحظة الكتابة هذه إلى أن لغة الخطاب السياسي قد تغيرت أيضاً ، ولم تعد مفردات الماضي جديرة بالبقاء ، وأن هذا الشباب الذي كان في نظر البعض قديماً لم يكن سوى مجموعة احترفت وقت الفراغ وكيفية ضياعه لم يعودوا هكذا ، بل هم في وعي كاف بمفردات المشهد السياسي وعلى درجة عالية في التفرقة بين جماعة ومرشد ورئيس ، وإذا كانت الجماعة تقيم جسوراً من التواصل مع الثوار الذين صنعوا لغة تعادل الثورة ذاتها ، فهم لم يدركوا حتى اللحظة الراهنة أن هذا الفصيل السياسي قد تحرر من ثقافة السمع والطاعة وأنه اكتسب شرعية من قوة الثورة .