يعد الكاتب والناقد العراقي فاروق يوسف من الباحثين العرب، المشتغلين بالحفر الدؤوب في مسار الفنون التشكيلية العربية، عبر ما يطرحه من أسئلة جمالية تميزت بنقدها اللاذع أحيانا، وواقعيتها الحادة في أحيان كثيرة وهي تعري معالم المشروع الفني العربي، الذي تطمر تمظهراته بعض المقاربات الحداثية وما بعد الحداثية، المعبرة عن ترهل مفاهيمي واضح، كما جاء في عدد من كتاباته ومقالاته. وهو يعتمد آلية التفكيك بمرونة أدواتها المنفتحة على التعدد والاختلاف، للحفر عميقا في أسئلة الفن التشكيلي العربي وتأجيج النقاش حول إشكالياته وهواجس المشتغلين به من نقاد وفنانين. يوسف أيضاً يكتب الشعر وأدب الرحلة، وقد فاز مؤلفه «لاشيء لا أحد» بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، وله في الشعر دواوين نذكر منها.. «أناشيد السكون»، و«الملاك يتبعه حشد من الأمراء». وفي النقد.. «أقنعة الرسم»، «الفن في متاهة»، و«قوة الفن». وهو عضو الرابطة الدولية لنقاد الفن. وكان ل«القدس العربي» معه الحوار التالي.. - كتابك «الفن في متاهة» جاء كنقد لاذع لما يسمى فنا عربيا معاصرا، فهل الفن العربي مشروع مازال يتعين تحقيقه؟ لست على يقين من صلابة مصطلح «فن عربي» لذلك أتحاشى استعماله في محاولة الإشارة إلى الصنيع الفني العربي في مجال الحداثة الفنية. ما حدث فعلا أن كل النظريات التي طرحت منذ أكثر من سبعين سنة كانت جزءا من منظومة تفكير سياسي قهري، سعى أصحابه إلى الزج بصفة عربي في أماكن بدت كما لو أنها ثغرات في العلاقة المضطربة بالعالم الخارجي. في سياق تلك المحاولات النظرية لم تتم على سبيل المثال معالجة المزاج الشعبي، باعتباره واحدا من أهم مصادر الإلهام والسلوك الفنيين. من وجهة نظري كان هناك مزاج عربي طبع النتاج الفني منتصف القرن الماضي بأثره. وهو ما صنع الوهم الذي وقعنا فيه حين حاول البعض إضفاء هالة على الصنيع الفني لم تكن في حقيقتها جزءا منه. لقد انطوت المحاولة الفنية حتى خمسينيات القرن الماضي على قدر لافت من الصدق مع الذات. لم يكن هناك خوف من العالم الخارجي، بمعنى أن فكرة الغزو الثقافي لم تكن يومها قد تمكنت من حرية الفنان، ومن النهل بحرية من منابع عالمية من غير التفكير بالتبعية. على هذا الأساس يمكننا النظر باحترام إلى التجربة السيريالية في مصر (جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد كامل، أنجي افلاطون) وقبلها كانت تجربة محمود سعيد رائدة في هذا المجال وصولا إلى تجربتي العراقي جواد سليم والمغربي أحمد الشرقاوي. ثم بدأت هستيريا الخوف من العالم في ستينيات القرن الماضي. يومها فقد الفنان العربي توازنه، وانقطعت صلة الفنان العربي بمزاجه المحلي، وفي الوقت نفسه لم تكن الطرق التي تقود إلى مزاج عالمي ممهدة بسبب الضغوط السياسية وما انطوت عليه من عزلة عن العالم. بعكس ما يُشاع من أفكار متفائلة أنا اعتبر مرحلة الستينيات واحدة من أسوأ مراحل التأسيس للفن التشكيلي في العالم العربي. يومها فقد الفن في العالم العربي بوصلته وصرنا نقف في مواجهة تجارب فنية فردية، لا هم لها سوى مجاراة ما يمكن التقاطه من تحولات في الفن العالمي. وهي محاولة خاسرة من وجهة نظري. لقد سطا فنانون عرب على تجارب فنية عالمية استغفالا للمتلقي الذي لم تعنه وسائط الاتصال يومها على معرفة ما يجري في العالم. خلاصة رأيي في تلك المسألة أن العرب لم يتح لهم الوقت ولا الإمكانيات لإقامة فنهم. الفن الذي يستلهم مزاجهم في إطار الفن العالمي، وهو ما فعله الهنود واليابانيون والأمريكيون اللاتينيون والأفارقة بنجاح لافت. - وسط هذا التسيب المفاهيمي الذي يقولب التجربة الفنية العربية في مناهج ونظريات غربية ويوجه مسارها، هل تعتقد أنه من الضروري إعلان موت الفن العربي؟ أم أن ثمة أمل في بعض تجاربنا المعاصرة؟ أعتقد أن العرب يحاولون. هناك فنانون عرب حقيقيون ومخلصون، ينقصهم الصدق مع الذات، الذي لن يتحقق إلا من خلال الابتعاد عن قيم السوق، التي صارت تفرض معاييرها من خلال المزادات، لقد تم تدمير الحياة السوية على المستوى الواقعي في الكثير من المدن الواقعية وهو أمر ظهر جليا مع ثورات الربيع العربي، غير أنه يمتد إلى أبعد منها. يمكنني الحديث عن أمل، لكن بحذر شديد. هناك عزوف عن الحرفة، وهو ما يخيفني في ظل معرفتي أن حدود الخيال صارت تضيق، بسبب ارتباك سبل العيش. لقد علمتني تجارب العيش في المنافي أن أنصت إلى صوت الواقع. ليست هناك في العالم العربي بيئة منتجة للجمال والعكس هو الصحيح، لدينا الكثير مما يمكن أن ننتجه من القبح. المشكلة تكمن في أن الفن هو خلاصنا الوحيد. ما لا يدركه فنانو اليوم، أنهم مُخلِّصون. كيف يمكننا أن نقنعهم بذلك وقد انزلقوا إلى هاوية سوق وهمية؟ لست يائسا ولست عدميا كما يظن البعض، أنا أنتظر. سيكون للنساء دور عظيم في عملية الإنقاذ، فهناك رسامات حقيقيات، لقد تمكنّ من الحرفة ولا يزال خيالهن الأنثوي مرتبطا بعملية الخلق. - وماذا عن إشكالية (الأصالة والمعاصرة) التي ألهمت ريشة الفنانين وحركت أقلام النقاد والأكاديميين منذ الخمسينيات ومازال صداها يتردد؟ تلك واحدة من أكاذيب عصرنا العربي الحديث. لقد تم الترويج لمعادلة التراث والمعاصرة من خلال أجهزة إعلام أنظمة أعمتها النظريات عن رؤية الحقيقة. ما من شيء حقيقي يمكن أن يقال في ذلك المجال، كله لغو وإنشاء، فالأصالة إذا لم تتعلق بالأسلوب الشخصي فهي كذبة. - للنقد الفني دور أساسي في إغناء وتطوير الممارسة التطبيقية التشكيلية، فما رأيك في حركة النقد المعاصر عربيا؟ أنظر بسعادة لكل ما يُكتب عن الفن التشكيلي في الصحافة، أنا أتعلم منه. لا بأس ليكتب الجميع. إن كنتَ تحب تجربة فنية فاكتب عنها. أنا أحب تلك الكتابات الحميمية. أتذكر نصا من جان جينيه عن جياكوميتي، كان عميقا في صدقه. ليكتب الجميع عن الفن فهناك فائدة تطل من خلال فكرة صغيرة يقولها أحدهم عن الجمال. ما يهمني فعلا أن نعلي من قيم الجمال، أن يكون الجمال هدفنا الأسمى، أما النقد فلندعه لمناسبات تليق به. - ماذا عن التعليم الفني في البلدان العربية، كيف تراه وتتأمل مستقبله؟ هنا يكمن أساس الكارثة، لقد درست الفن التشكيلي في السبعينيات في بغداد ولم يكن هناك كتاب أعود إليه طوال أربع سنوات، لقد تمت عملية التعليم شفاهيا. كنا نتعلم الحرفة من غير التطرق إلى الخيال، يمكنني القول إن تعليم الفن صار أسوأ مع مضي الوقت، لقد انتهى عصر المعلمين الكبار. نحن الآن ندفع فاتورة صعود المعلمين العقائديين، شخصيا لا أثق في كليات الفنون. ولكنها ليست السبيل الوحيد الذي يتعلم المرء من خلاله الفن، فأنا على يقين من أن القدر سيهبنا فنانين يولدون خارج رحم تلك المؤسسة. - وماذا عن علاقة الفن بالسلطة؟ عبر كل العصور كانت الصلة ملتبسة بين الفن والسلطة، كان السؤال يلخص صلتنا بالفن لا صلتنا بالسلطة. ما الذي يمكن أن تفعله السلطة بالفن؟ أما ما يفعله الفن بالسلطة فإنه سيظل نوعا من الأسئلة المتفائلة التي لا يتسع لها الواقع. لقد عبثت السلطة بالفن عبر العصور، كانت هناك خشية عميقة من قوة الفن، من قدرته على التأثير، لذلك تم احتواؤه وترويضه برحمة وأيضا يتم قمعه إذا أبدى نوعا من التمرد. الفن صعب حين يكون حرا ومستقلا وخطورته تكمن في خفاء الطرق التي يسلكها، لذلك من الصعب استرضاؤه وهو ما يدفع السلطة في كثير من الأحيان إلى اختراع فن تحت السيطرة. وسلطة المال تفعل الآن ما تراه مناسبا لاستمرارها من خلال تسطيح الفن.
- كيف تنظر لمستقبل الفن العربي؟ تشهد الفنون في عصرنا رواجا كبيرا. لقد تغيرت الحياة بما ساعد على أن يملك الإنسان الكثير من الأوقات التي يخصصها للمعرفة. هناك يسر كبير في انتقال المعلومات، كما أن الجانب اليدوي قد بدأ في الاضمحلال. الفنون تعمل على توسيع الدائرة التي يعمل فيها الخيال. العالم اليوم ينفق على الفنون أضعافا مضاعفة مما كان ينفق في العصور السابقة وتحتل الفنون المكانة التي تستحقها. كل ذلك مرتبط بالاستقرار والأمن وتوفير الحاجات الأساسية للإنسان، من غذاء وسكن وثياب ودواء. ولأن كل ما سلف يتعرض للاضطراب في العالم العربي فإن مصير الفنون لا يوحي بالاطمئنان. - منذ أكثر من أربعين سنة وأنت تكتب عن الفن والجمال، لكنك تشك في صفتك كناقد فني، كما صرحت بذلك لرافع الناصري لماذا؟ ما كنت أقوله لرافع الناصري لا أجرؤ على التصريح به لشخص آخر، بسبب سوء الفهم الذي يمكن أن تنطوي عليه اللغة. الناصري هو الوحيد من بين أصدقائي الذي كان يفهم ما أقول، بالمعاني التي أسعى إلى الوصول إليها. كان رافع طرازا نادرا من الرسامين وكنا نقول أشياء لا يمكنني استعادتها اليوم بالعمق نفسه. ذات مرة حدثته عن تململي بالجانب الوظيفي من النقد، كأن يكون الناقد حكما، شيء يناقض المتعة والاحتفاء بالجمال. وفعلا أنا لا أهوى صفة ناقد. - وختاماً نعود لكتابك نفسه «الفن في متاهة» وقد انتقدت المؤسسات التي تحاول التحكم في الذائقة البصرية العربية، فما تبعات ذلك؟ تم استقبال الكتاب للأسف بسوء فهم كبير. مصدره إصراري على أن أكون حرا ومستقلا في ما أكتب، فطريقتي في التفكير هي انعكاس لأسلوبي في العيش وكنت أتمنى وما أزال أن يرتقي الفنانون بأنفسهم إلى مستوى استيعاب شروط الحرية التي تشمل الجميع. فمثلما يفكر الفنان في حريته، عليه أن يفكر في حرية الآخر. إذا كنت قد قررت المضي في طريق الحرية الشائك والمتشعب، فعليك أن تكون مستعدا لتلقي مختلف أنواع سوء الفهم، الساذج والمقصود على حد سواء. لقد حوربت من قبل أفراد ومؤسسات، غير أن ما يعتبره الآخرون خسائر كان مريحا بالنسبة لي. ذلك لأني ربحت كرامة الكتابة وهو ما أحتاجه أكثر من أي شيء. الكتابة فعل بطولي وما لم يحقق ذلك الفعل اختراقا على مستوى الاختلاف فإنه يتخلى عن الجانب البطولي المغامر فيه. الحياة مجازفة.