شغلت إشكالية الأصالة والمعاصرة جل الباحثين والفنانين العرب لسنوات طويلة، خاصة بعد خروج المستعمر، فتميز الاشتغال البصري والتشكيلي في الفن العربي باستلهام العلامات الثقافية والموروث الشعبي.. خطاً وهندسة ورقشاً ومقرنصات، في غنائية لونية وشكلية سبق للفن الغربي أن وظفها في إبداع أعمال أغنت سياق نهضة الفن الحديث والمعاصر، غير أن هذا الاستلهام العربي لمفردات التراث البصري، لم يسلم من الاجترار والتكرار والنمطية، ولم ينتج إلا تجارب تشكيلية قليلة، مبدعة وأصيلة، استطاعت أن تتمثل هذا المخزون الرمزي بانفتاح على البعد الإنساني والعالمي. ذلك يرجع إلى محدودية دور الجامعات في إغناء التنظير الجمالي والبحث الفلسفي الفني، وما نتج عن ذلك من تكوين لرسامين حرفيين، يتقنون الجانب العملي والتقني في غياب رؤية نظرية وجمالية تفتح أفق المغامرة التشكيلية المبدعة. الوعي التراثي ونهج التجريب تعتبر تجربة عبد السلام أزدم، من التجارب القليلة التي تمثلت التراث جماليا، مستلهمة روحه في التعبير عن قلق وتشظي الذات العربية المعاصرة في علاقتها بالعالم والوجود، وذلك لما تميزت به من قدرة على توظيف المفردات التراثية وصياغة المفاهيم التشكيلية، المنبثقة عن رؤية جمالية غنية، جاءت نتيجة طبيعية لاختياراته الثقافية، كناشط ثقافي وباحث في علم الاجتماع ومجرب دؤوب للمواد والخامات التشكيلية المختلفة، ترابا، طينا، ورقا، أصباغا طبيعية، يوظفها في مغامرة تجريبية، تتصارع مع القديم للبحث عن كوة ضوء في عتمة الراهن، يفتحها على المطلق الذي لا يؤمن بالحدود، متمثلا البعد الروحي والصوفي للثقافة العربية والإسلامية. الفكرة وتجسيدها ويعد العمل الفني لدى عبد السلام أزدم، تجسيدا لاتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، لذلك يكون النمط الرمزي في عمله التشكيلي بحثا عن المثال، وعن اتحاد الفكرة بالشكل، لأنه نابع من الروح الإنسانية. ولذلك نجده يعتمد على مفردات التجربة الصوفية التي تلخص رؤيته للذات والوجود وتعبر عن قلقه الخاص والإنساني عبر حدس ينبثق من أعماق الوجدان والعاطفة، ليضفي على لوحته «ما في الرمز من خفة» كما قال «كروتشه» الذي يعتبر الفن ملحمة العاطفة وأثرا حدسيا ووجدانياً. البُعد الصوفي ويتجلى البعد الصوفي في عدم إمكانية فصل الحدس عن العاطفة، التي لا بد أن تخلق لنفسها تصورا مدهشا وتمظهرا جماليا، وبالتالي يتم استبعاد الأشكال التي بنيت بناء آليا صرفا وواقعيا. ومن هنا فإن كل لوحة للفنان هي حالة نفسية وحدس غنائي، يجمع بين الروحي والمادي، أو بين المعرفة التقنية والصوت الوجداني، لذلك لم يكن توظيف أدوات التصوف من حدس واختزال وتبسيط، إلى جانب الدوائر في عمل الفنان، مجرد تأمل فلسفي أو اجترار لعناصر التراث، بل تمثل يرتكز على تجربة داخلية عميقة، تجعل حضور الخارج يشرق في الداخل، ثم الخروج من جديد عبر التجربة الفنية المحمومة بالجذب والشطح والتقلب من حال إلى حال، وهو ما يتجلى في تجربة الفنان المحتفية بالتجرد والاختزال والتبسيط، فيرسم الطيف بدل الجسد، والرمز بدل الصورة ويلون بالأصباغ الترابية الخفيفة بدل الألوان الفاقعة، على مساحات يكتسحها الفراغ كتجربة تعالٍ، فيها تختبر الذات أقصى ممكنها، تجربة وعرة تهدف بمسعاها إلى توقيف التعلق بالخلق وإلى الاستغناء إلا عن المطلق على تخوم المستحيل. .... ٭ تشكيلي مغربي