رحل صباح الثلاثاء السابع عشر من يناير/كانون الثاني 2012، فارس من فرسان الكلمة والسرد في الإسكندرية، بل وفي مصر؛ أحد أبناء هذا الوطن ومحاربيه العظماء في حربي الاستنزاف والعبور العظيم، ومقاتليه في ساحة تعليم الذات والتقلب على جمر الحياة والأدب العظيم. "أحمد محمد حميد علي" الشهير ب "أحمد حميدة"، "جوركي الإسكندرية"؛ عاشق الشوارع وعاشق تراب هذا الوطن عن عمر يناهز الثالثة والستين بعد حياة إنسانية وأدبية شاقة ومضنية ومرهقة وممتعة، وحافلة بالكفاح والعصامية والنزاهة. رحل مبدع "عبق الشوارع"، و"شوارع تنام من العاشرة"، و"تراتيل نسج الطواقي"، و"القيظ والعنفوان"، و"حراس الليل"، و"الغجر"، و"أشلاء بؤرة العشاق"، و"سوق الرجال"، و"متاهة الغربان".. وغيرها مما لم يمهله قدره أن يراها ماثلة بين يديه في كتب. قال الناقد الدكتور محمد حسن عبدالله عن أحمد حميدة إنه "كان مفاجأة في حجم الشاعرية والجمال والجدية الفنية الفكرية بدرجة تسمح أن نطلق عليه عدة أوصاف، وقد استطاع أحمد حميدة أن ينتزع منطقه الخاص في القصة". وقال الناقد د. مجدي توفيق عن مجموعة حميدة "عبق الشوارع": "ومهما يكن التوجه المختار، فنحن أمام كتابة مفعمة بالألم، مفعمة بالشعور بأن الوطن في خطر، وأن الناس يتخبطون من المعاناة وهي في الوقت نفسه كتابة تصرخ من كل جهة بأن الوطن يستحق حياة أفضل". وعن شخصيات حميدة قال الكاتب محمود قاسم في أحد أعداد مجلة الهلال: "وشخصيات حميدة أشبه بشخصيات فلليني، تمزج بين الواقع والأسطورة وتعيش على هامش المجتمع، تتصرف بعبثية.. تطحنها الحياة.. وإذا كان هناك أمل وخفة ظل تكسو بعض شخصيات المخرج الإيطالي، فإن حميدة يهتم بالجانب القاتم من أبطاله ولا ترى فيهم أي جانب من أمل، إلا بضعة أمنيات لعلها تتحقق يوما.." وتابع الكاتب الفلسطيني غريب عسقلاني أعمال أحمد حميدة وقال عن رواية "أشلاء بؤرة العشاق": "يواصل الكاتب السكندري أحمد حميدة، النبش المعمق في رصد كوامن النفوس الصائمة على أشواقها، والقابعة في النطاق البعيد عن سكان البحر، أسياد المدينة اللاهية العابثة السادرة في غيها والتي ترى في كائنات المدارات البعيدة عبيدا يقومون على خدمتها، ولا بأس من ابتزازهم حتى تأخذ الرفاهية أبعادها المنشودة.." وتحدث الكاتب الكبير محمد جبريل عن مجموعة حميدة القصصية "الهجرة إلى الأرض" قائلا: "إن حميدة يحاول أن يثير في نفوسنا العنف الاجتماعي إزاء واقع مريض.. كل شخصياته تعيش حالة إحباط وقهر اجتماعي رغما عنها. إن بطله يحاول أن يتواءم مع القوانين ولكنه لا يستطيع. إن أسلوب أحمد حميدة فيه روح الاجتهاد والحماسة نحو التخصص، ولذلك فهو مجرب وفي حالة تجربة دائمة". وعن عالم أحمد حميدة الفني ذكر الكاتب المبدع محمود عوض عبدالعال أثناء تعرضه لمجموعة "النبش في الذاكرة": "إنه عالم الواقع الذي لا يمكن تزييفه، وذاكرة الواقع الشعبي ذاكرة قوية لا يفلت منها شيء، والكاتب لديه خبرة تفصيلية بمكنونات هذه الوقائع يتلمسها في قصصه خطوة خطوة ويلقي بها على عواهنها أمام عيوننا بتلقائية محببة إلى نفوسنا في أحيان كثيرة، وهي ميزة كبرى في قصص أحمد حميدة..". وعن عنصر المقاومة في قصص الراحل أحمد حميدة يشير الشاعر أحمد فضل شبلول إلى قصة "طائر مغرِّد" في المجموعة القصصية "عبق الشوارع" حيث يبتاع صابر خريج كلية العلوم، الذي ينتظر خطاب التعيين صندوق مسح أحذية، ويجد مكانا له في ميدان محطة الرمل، موليا ظهره لقصر القنصل الإيطالي، (أو للبحر)، ومواجها مسرح تربيكو "على كيفك"، (أو مسرح الحياة)، واضعا شهادته تحت لوح بلوري سميك، ليراها كل من يمسح حذاءه. إلى أن جاءه بمن يصفهم بأصحاب الوجوه المتكلسة، الذين يقولون شالوم (سيقان متكلسة، ونظرات ظفر ممقوتة، يقولون .. شالوم .. حين يأتون وحين يذهبون). وكانوا يتزايدون يوما بعد يوم، بينما ذوو الأحذية القديمة (ويقصد بهم أولاد البلد أو أبناء الوطن) لم يعودوا يمسحون".