تتناسل أفكار هذا الكتاب "ليس مجرد سرد.. أصل الحكاية في التاريخ العربي" للناقد والباحث الأردني محمد محمود البشتاوي في متواليةٍ متناسقةٍ تتَّسقُ في سياقٍ واحدٍ يربطُ التاريخ برحابتهِ بالحكاية وما تحملهُ من فضاءات متشعّبة، فتقرأ وتحلل الشخصيات، الأحداث ومساراتها، اللغة والسرود والروايات والرواة، المقارنة والمقاربة، محاولة تفكيك الحكاية.. الخ. وذلك انطلاقا من رؤية حداثية ترصد وتتساءل وتحلل، حيث رأى البشتاوي أن "رُويَ التراث في جلِّ مصنفاتهِ بوصفه جزءاً من تاريخٍ، لا أدباً، ولا سرداً، وتقزّمَ أمام حالة "الشعرنة" العربية، فتداخلَ بذلك التاريخ والسرد الحكائي العربي، وباتَ من المهمِّ تناولُهُ كما نشأَ في أصلهِ، لا كما جاءت بهِ النظريات القديمة، إلا ما وردَ فيها وكان أداة يمكن توظيفها لصالحِ الفهم والقراءة. وأكد البشتاوي أن كتابه الصادر عن الآن ناشرون وموزعون يشكل "إطلالة على التراث العربيّ الحكائيّ، وما اشتملَ عليه من سُرود، ومحاولة تفحُّصِها ضمن أكثر من سياق؛ قراءة تفاعليّة مع النصّ تسعى لاستنطاق الكامن فيه، ومعالجته في مقارنة تاريخيّة وثقافيّة بين العرب والأمم الأخرى، وتوضيح العلاقة بين التاريخ والحكاية، والتّأكيد أنّ الموروث العربي لا يقتصر على الشعر". قسم البشتاوي الكتاب إلى ثمانية أبواب الأول حلل فيه عناصر الائتلاف والاختلاف في الحكاية العربية القديمة، لينطلق بعد ذلك إلى الحكايات: حرب البسوس، زنوبيا (الزباء)، الضيزن ملك الحضر، ليعود بحثا عن سنمار تعددت الروايات والسردُ واحدُ، وحديث الخرافة عند العرب ليحلل خرافات تأبط شراً مع الغول، خرافة السعلاة، وسيرة زرقاوات العرب، وغرائبية كهنة العرب في السرد، ويخصص بابا كاملا لظاهر العمر.. بين المشارط وقوالب التاريخ، ويختم بباب تحت عنوان "يُحكى أنَّ.. مختارات من السرد العربي القديم، وفيه أخبار الملك النعمان بن المنذر التنوخي، حروب الفئران، حكايات أبو علقمة النميري، حكاية مثل، أحد كهان اليمن يفصل في أمر هند بنت عتبة. حجرَ الزاوية وقد أوضح البشتاوي أن الأمم تحاول عبر التشبّث بتراثها إثبات وجودها حضارياً، وكلما كان الأدب قادرا على تصوير بيئته المحلية تصويرا عميقا استطاع أن ينطلق إلى العالمية. في حين يتجه بعض المثقفين الأمميين إلى الحضارات الأخرى لإغناء رصيدهم الثقافي، وإضافة ما هو جديد ومختلف عمّا خُلِّد في تاريخهم الأدبي. وخلافاً لذلك أصيبت الحالة العربية بإنكارٍ للذات وتنكُّرٍ لها، إذ إن "التراث" في نظر شريحة كبيرة من مثقفينا، ليس إلا حجرَ الزاوية لمقام الشعر الذي عُنونَ نقديّاً بوصفه "ديوان العرب"، في حالِ الحديث عن الشعر الكلاسيكي، وأحياناً عن "شعر التفعيلة"، أما "قصيدة النثر" فلا جدالَ لدى هؤلاء في "أوْرَبَتِها" و"أمْرَكَتِها"، متناسين نثريات "النفري" و"الحلاج" و"أبي يزيد البسطامي" وآخرين. وثمة فئة أخرى من مثقفينا تنظر إلى تراثنا بازدراء وعداء، فتحطُّ من قدرهِ، في حال تتطابق تاريخيّاً مع "الحركة الشُّعُوبية"، مقابل التغني بما لدى الأمم الأخرى، فنكون بذلك أمام حالة استلاب للغرب، وانسلاخ عن "العربية" وتراثها وحضارتها، لدرجةِ أن بعضهم طالب بأن تكون الكتابة بأحرفٍ لاتينية في بعض الدول العربية، كما طالب بعض آخر باستبدال العامية بالفُصحى. وفي سياق هذا التجاهل المتعمد للتراث السردي العربي، نتيجةَ الاستلاب لثقافة الآخر، والتبعية، وتعمية العين عن المخزون الثقافي الحِكائي، نجد أن نخبة من مثقفينا تتجه نحو الغرب، نقديّاً وسرديّاً، بوصفه منشأَ الحكايةِ، والروايةِ، والقَصّ. وأضاف "لم يكن القصور في تناول التراث السردي العربي بسبب قلة ما توفر من نصوص، أو بسبب ضعف المحتوى، بل على العكس من ذلك، كان السرد حاضراً وبأشكال وأنماط متنوعة، بيدَ أن الشعر مُيِّزَ؛ فهو "لسان العرب"، فاجتذبَ الأضواء إليه، وانجذب الدارسون له، ما أدى إلى إقصاء ما سواهُ من فنون وآداب. إن مكمن الخلل تجسد في غياب النقد للتراث الحكائي، مذ كان الانشغال يقتصر على "بحور الشعر" و"طبقات الشعراء" و"المنحول" و"السرقات" والمفاضلة بين فرسان الشعر العربي..، علاوةً على الاهتمام البالغ الذي حظي به الشعر من قبل السلطات المتعاقبة التي أغدقت العطايا على الشعراء، الأمر الذي "شَعرَنَ" آداب العرب، فلا عجب إن صُهرت بعض القصص لتُروى شِعراً، أو دخل الشعر في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ من كلامِ العرب. نُظِرَ قديماً إلى بعض السرد من زاوية أن ما يأتي بهِ ليس إلا خرافات وحكايات غير مألوفة في بيئةٍ تقومُ على الجدية والفروسية، والتسليم بأن قرض الشعر سمةٌ يتحلى بها العربي في قبيلته، وأمام القبائل الأخرى، فالشاعرُ لسان قبيلته في وقتِ الحربِ والسِّلمِ، وتداوُلُ الشعر شفهيا أيسرُ من النثر، وأكثر بلاغةً، وحماسةً، وتأثيراً في النفس. ولفت البشتاوي إلى أنه في مقابل ذلك أُهمِلَ السرد؛ فهو نثر أدنى مرتبة من الشعر، وكثيراً ما خالطَ "السرد" التاريخ والتوجهات الفكرية، وإن أردنا فرز القائمين على السرد في التاريخ العربي نجد أنهم إخباريون، وحاملو فكر، ومدونون لتاريخ الحقباتِ السابقة، فانطبع في الأذهان أن السردَ وعظيٌّ "كرسائل ابن حَيَّان وبعض المقامات"، أو فلسفيٌّ "كقصة حَي بن يقظان بنسخ مؤلفيها الأربعة"، أو فكاهيٌّ "كقصص بخلاء الجاحظ ونوادر جحا"، أو خارجٌ عن المألوف "كحكايا السعالي والجن وغرائب الصعاليك كتأبّطَ شرّاً". وقال: "لا شك أنَّ الشعر في التاريخ العربي له مقام القلب في الجسد، بيدَ أنهُ ليسَ الجسدَ كلهُ، فثمةَ سرود شاملة تضمُّ الشعرَ في مساراتها، على أساس أنه إحدى ركائز البيئة العربية. ومقابل ذلك التوصيف، فإن المعادلة اليوم تغيرت، ليصبحَ الشعرُ أقلَّ الأصناف الإبداعية شأناً لو قُورِنَ بالرواية، والقصة، والقصة القصيرة جدا، في ظل دعم هذه الأجناس بالنقد، وإضفاء حالة من الانبهار عليها عبر ترجمة كل ما يتصل بها عن الأمم الأخرى، وتفضيل دُور النشر في صناعتها وتجارتها السردَ الحديثَ على الشعر بتلاوينِه كلها. خصائص مشتركة ورأى البشتاوي أن قارئ الحكاية العربية القديمة المتفحص يجد أن هذه الحكاية تتسم بخصائص مشتركة، فهي لا تجنح بعيداً في الخيال، ولا تعتمد على خوارق لتحقيق الإثارة، وربما يعود ذلك لاستنادها إلى التاريخ، مع التأكيد أن هنالك قسماً من الحكايات لجأت إلى الخوارق والأجواء العجائبية، كسيرة "سيف بن ذي يزن"، وحكاية "مصباح علاء الدين"، و"السندباد البحري"، وقصة "حي بن يقظان"، و"العنقاء"، وحكايا "الغول/ة"، وثمة خرافات في كتب التراث أطلق عليها في الأثر "تكاذيب الأعراب"، وهي نوع من "الكذب الأبيض"، حيث يتنافسون على إطلاق كذبة مبالغ فيها أكثر من غيرها، وفي حال المبالغة، ضربت العرب مثلاً فقالت "من رابع المستحيلات"، إذ إن هنالك ثلاثة مستحيلات نَفَت العرب وجودها، ورأت في "حكيها" وتداولها مبالغةً خارجة عن المألوف، فقيل: أَيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي فمن جاء بأمر يستحيل حدوثُه أو تحقيقهُ رُدَّ عليه بجزمٍ وتأكيد "من رابعِ المستحيلات". وقال: "المنتقمون صفةٌ يمكن تعميمُها على أبطال الحكايات العربية؛ فالزير سالم ينتقم لأخيه من بني مرة، والزَّبَّاء تنتقم لوالدها عمرو بن الظرب من قاتله جذيمة الأبرش، وابن أخت جذيمة هذا، وهو عمرو بن عدي ينتقم من الزَّبَّاء لمقتل خالهِ، كما أن امرئ القيس ينتقم لأبيه، أما سابور ذو الأكتاف فينتقم من الضيزن بن معاوية خاطفِ أخته (ماه)، وحيناً يقال إنها عمته، ثم ينتقم من النضيرة لأنها خانت والدها..، وهكذا تستمر عملية الانتقام التي تُبنى على أساسها حبكةُ الحكاية". وأشار البشتاوي إلى أن "عنصر الانتقام" ربما كان أساسيا في بنيان حكايتنا الشرقية، نظراً إلى ترسخ القيم القبلية والعشائرية والمناطقية كخلفية عامة مشتركة، فأصبح الانتقام ركيزة أساسية في أيِّ صراعٍ قد يُشعلُ حرباً ضروساً تمتدُّ نيرانها لأربعة عقود كما في حرب البسوس، وبسبب أن الخطف، أو السَّبي، أو الإغارة، وما شابه ذلك من ظروفٍ كانت تعدُّ من الحياة اليومية الدارجة في عصر ما قبل الإسلام، فإن بعض العرب لجأت إلى "وأد البنات" مخافة وقوعهن في تلك النزاعات سبايا.. فكان "الوَأدُ" سُلوكاً من العرب لمنعِ الانتقام من الشرف فيما لو اندلعتْ حربٌ وأراد الخصمُ الانتقام ب "السَّبي". ورأى أن للشعر حضورا قويا داخل الحكاية العربية، بل إن بعض الحكايات تبني قصتها على الشعر، من ذلك ما أوصى به "الملك" كليب قبل وفاتهِ متأثراً بجراحهِ لأخيه "الزير سالم"، وقصة الأخير مع بيتين من الشعر قالهما لعبدين ليبلغاهما ذويهِ، فلما عاد العبدان قالا ل "اليمامة": من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا لله دركما ودر أبيكما فصاحت اليمامة وقالت: عمي لا يقول أبياتاً ناقصة. وإنما أراد أن يقول لنا: من مبلغ الحيين أن مهلهلا ** أضحى قتيلاً في الفلاة مجندلا لله دركما ودر أبيكما ** لا يبرح العبدان حتى يقتلا وإضافة إلى المهلهل، فإن أغلب شخصيات "حرب البسوس" تقرضُ الشعر، علاوةً على أن معظم أبطال الحكايات العربية هم شعراء، كامرئ القيس، وقصير بن عدي، وغيرهما. أيضا ثيمةٌ مشتركةٌ أخرى تتجسد في "المَثَل"، وكأن الحكاية العربية وُجدت من أجل استنباط الأمثال، ويحضُرُ هذا بقوَّةٍ في قصة "الزَّبَّاء" وحربها مع "الأبرش"، وفي "حرب البسوس" أيضاً.