يواصل الشاعر السوري المغترب بأميركا أكرم قطريب في كتابه الجديد “كتاب الغريق” نحت تجربة شعرية متفرّدة، تقوم على خلق علاقات جديدة بين الأشياء والأسماء، وعلى استنطاق العالم، بالعودة إلى روح النصوص القديمة، وبعثها في ما يلتقطه من تفاصيل الحياة اليومية، لكأنّ نصوصه كتبها إنسان الكهوف، وكأنّها في جانب آخر لا تزال مضغة في المخيّلة لم تُكتب بعد. تملك نصوص أكرم قطريب قدرة هائلة على اختزال الأزمنة في لحظة. يقول الشاعر في نصه “كتاب الرحلات”: بخصوص المكان ذلك التخم الموحش، وبخصوص الجسد الذي لم يتمكّن من القطيعة، وطعمك في الخبز والملح، وكلّ هذا القار المقدّس الذي يصبّ في الأنهار، وأولئك الذين يقومون برحلة طويلة كي ينحدروا من سلالتك، وهم لا يطلبون إلاّ السلم، ورصيدا بسيطا في بنك الغيب. بهذا الاختزال المبسّط لرحلة الإنسان عبر الزمان والمكان يصبغ الشاعر نصوصه، فتبدو كأنها قلاع طوباويّة، والمعاني فيها أصوات أثيريّة تأتي وتذهب مع الريح، ولا يظلّ منها في الآذان سوى طنين جرسيّ يشبه عمليّة تذكّر حكمة. نصوص “أكرم قطريب” في “كتاب الغريق” الصّادر عن دار مخطوطات بهولندا، تحمل احتجاجاً حادّا ضدّ قسوة العالم، في نصّه “الشاعر الطوباويّ” يصرخ الشاعر “كلّ هذا الدّم الذي يجري في التلفزيون ومحرّكات الدّيزل لم يكف لإطلاق صيْحة ما، تجعل الشاعر الطّوباويّ يكتب جملةً عن الآدميين العراة: يموتون وأرواحهم تستلقي آخر اللّيل كأشجار المزارع البعيدة”. شعر أكرم قطريب لم يتعال عن الواقع الدموي الذي يغرق فيه وطنه، وإنما أسْطره وأخرجه إلى فضاءات عالية نصوص أكرم قطريب لا تُؤرّخ للألم، وإنما هي تتألّم. كلّ لفظة فيها هي حشرجة مذبوح وآهة مهاجر وخبطة غريق. ومنذ عنوان الكتاب “كتاب الغريق” يدمغنا بذكرى صورة الطّفل السوريّ الغريق إيلان وهو يفترش رمال المتوسط، تلك الصورة التي تختزل مأساة شعب بأكمله. يعود الشاعر للحفر في طفولته، ليُخرج لنا صورا صارخة من طفولة محفوفة بالقسوة واللامبالاة، لكأنّه يقول: كلّنا إيلان في هذا الشرق المريض الذي يمسك عصا مؤدّبٍ ويعاقب أطفاله على أحلامهم. يقول الشاعر: علّقني أبي على حبل الغسيل مرّة بسببِ علامتي الضّعيفة في الرّياضيات، قالت له أمي: أنزله عن حبل الغسيل وعلّقه على الشجرة. تختزل هذه الصورة المضحكة المبكية تاريخ تهميش الإنسان العربيّ وختن أحلامه وطمس ملامح اختلافه وتميّزه، ووضعه في قالب النّمط الواحد، فالمهمّ هو العادات والطقوس التي تحافظ على تماسك القطيع، والانحناء تحت ظلال التماثيل، وعدا ذلك فهو شذوذ ومروق وزندقة، ولعلّ قصيدة “الإلياذة السّوريّة” تعبّر عن هذه النظرة المحدودة للموهبة الإنسانيّة، والتي يسردها الشاعر في المفارقة التي يعيشها بين ما يلقاه من احتفاء بموهبته في العالم وما يقابل ذلك من تجاهل في وطنه. يقول: تمشي في شوارع كولمبيا أو جنوبفرنسا أو البرازيل ولا يعرفك هناك أحدٌ. بشرٌ مثلنا سيفتحون لك صدر البيت ثمّ يلتقطون معك الصّور التّذكاريّة وكأنّك أنهيتَ للتّوّ كتابة “الإلياذة”، ثمّ في ما بعد ستركب الطّائرة عائداً إلى وطنك الأمّ، فيستقبلك موظّف المطار مستفسراً إن كنت تحملُ أدواتٍ كهربائية في حقيبة الكتف. الإنسان القادم تظهر المرأة في شعر قطريب مظهر الآلهة الشرقية التي تتزيّن بالنجوم وتكون لها على أكتافها شامات مقدّسة، واهبة المطر وقارئة السماوات، المرأة التي تتعرّى في الكتب وتشعل الشهوات في القدّيسين، يقول فيها الشاعر “نسهر طويلا مثل شغيلة العصور الأولى، لنرى كتفك تلتمع كصحن النّحاس في المعبد أو نلحق ظلّك إلى آخره كي لا ننساه في الكتب. عُريك يضيئه نجمٌ وقع فوق سطح البيت. الكتب تشرح أسباب جسدك الذي تأوي إليه الطيور”. يعيدنا نص أكرم قطريب إلى مربّع الجدل النقدي بين الكتابة الملتزمة بإملاآتها وكتابة الفنّ لأجل الفنّ بمجانيتها، فالشاعر يستفيد من الاتجاهين ليغذّي نصّه، فلا هو مجنّد في معسكرات الأيديولوجيا، ولا هو بائع مكعبات فانتازيا في مدينة اليوطوبيا، في نصه نداء للإنسان وتمجيد للهالة المقدّسة في روحه، فهو يلمس واقعه بريشة الخيال، تماما مثلما تحدّث تروتسكي عن شعر رفيقه ماياكوفسكي وفي دفاعه عنه ضدّ هجمة الاشتراكيين والتي وصلت بلينين إلى حدّ أن نعته بصاحب الكلمات المخادعة، وفي قول تروتسكي “إنّ الشعر العظيم هو الذي لا يكفّ عن الحلم بالثورة، وإنه يفقد هالته حين يتجنّد لتمجيدها”. بعض ما نلمسه في شعر أكرم قطريب أنه لم يتعال عن الواقع الدموي الذي يغرق فيه وطنه، وإنما أسْطره وأخرجه من حلبة التطاحن الأيديولوجي الضيّقة إلى فضاءات الشعر العالية، ليبعث من رماد الحرب ضوء الإنسان القادم، بعيدا عن الأصوات العدميّة الناعقة.