لم يكن فيلم المخرج الفرنسي ميشيل هازانافشيوس الجديد “المهيبة” موفقا، لا في عنوانه ولا في اختيار موضوعه ولا في طريقة معالجته المفتعلة لشخصية سينمائية بمستوى شخصية المخرج السويسري-الفرنسي الكبير جون لوك غودار الذي تجاوز السادسة والثمانين من عمره. عنوان الفيلم “المهيبة” يشير إلى اسم أول غواصة نووية فرنسية كان يوصف طاقمها بقوة البأس، وهو وصف يبدو أن غودار مع الممثلة آن ويازمسكي التي أصبحت زوجته الثانية بعد آنا كارينا، اتفقا على إطلاقه على علاقتهما العاطفية، بمعنى أنها علاقة قوية لا يمكن أن تنفصم. وبطبيعة الحال من لا يعنيه أمر الغواصة الفرنسية لن يتمكن من استيعاب العنوان الغريب خاصة أن الفيلم يميل للاستخفاف بموضوعه، ويتعامل معه بقصدية مغرضة، ربما يكون دافعها الغيرة الشخصية من شهرة وتأثير غودار، وعجز مخرج الفيلم هازانافشيوس عن تحقيق ولو نسبة ضئيلة مما حققه غودار في عالم السينما من نجاح. اختار هازانافشيوس (الذي أصبح معروفا بعد فيلم “الفنان”- 2011) فترة محددة من حياة غودار لكي يجعل فيلمه يدور خلالها، هي أكثر فترات حياة المخرج الكبير قلقا وتمردا وتقلبا، وفي الوقت نفسه من أكثر فترات التاريخ الفرنسي الحديث بل والتاريخ الأوروبي اضطرابا، فهي الفترة التي شهدت مظاهرات الاحتجاج العنيفة ضد الحرب في فيتنام، وشهدت ذروة الحرب الباردة، ثورة الشباب الأوروبي ضد القيود السياسية والاجتماعية العتيقة، وظهور السينما الجديدة، اغتيال غيفارا، تصاعد الثورة الثقافية في الصين، غزو قوات حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا ثم انتفاضة العمال والطلاب في فرنسا (مايو 1968) التي كانت تسعى للإطاحة بنظام الجنرال ديغول، وشارك فيها غودار وزملاؤه من مخرجي الموجة الجديدة، ونجحوا حتى في وقف فعاليات مهرجان كان السينمائي. كان غودار قد حقق شهرة كبيرة في فرنسا وخارجها بأفلامه الأولى: “النفس الأخير” و”المرأة هي المرأة” و”الجندي الصغير” و”احتقار” و”امرأة متزوجة” و”الفافيل” و”بييرو المجنون” و”مؤنث مذكر” وصولا إلى ذروة التمرد في الشكل والمضمون في فيلم “الصينية” عام 1966. هذا الفيلم تحديدا هو الذي يخصص له فيلمنا هذا مساحة مميزة بل ويحاكي مخرجه أسلوب غودار في استخدامه اللوحات والشعارات والقطع الخشن للقطات والانتقالات غير التقليدية والتناقض بين ما نراه من صور وما يظهر من عناوين فوقها، بل إنه يصل أيضا إلى محاكاة طريقة غودار في وضع ترجمة إنكليزية تتناقض تماما مع المعنى الذي يتردد عبر الحوار الفرنسي (وهو ما فعله غودار فيما بعد بزمن طويل في فيلم “الاشتراكية”). ولكن الأهم على الصعيد الشخصي أن فيلم “الصينية” كان الفيلم الذي منح فيه غودار آن ويازمسكي دور البطولة، وكانت في التاسعة عشرة من عمرها، بينما كان غودار في السابعة والثلاثين، وكانت تقوم بدور طالبة ثورية. وحدة سينمائية غودار البورجوازي الذي تمرد على طبقته وأعلن اعتناق الماوية، لاعنا أفلامه السابقة، قرر بعد 1968 أن يصنع وحدة سينمائية-سياسية مع المثقف اليساري جون بيير غوران أطلق عليها “وحدة دزيغا فيرتوف” تيمنا باسم السينمائي السوفييتي الشهير، لكن الفيلم يصور هذا الاختيار في تهكم وسخرية، ولا يتوقف أمام أفكار غودار السياسية وكيف تطورت ولماذا اتخذ هذا المسار بقدر ما يركز على العلاقة العاطفية والزوجية بين غودار وزوجته الشابة، وغيرته الشديدة عليها ورغبته في صبها في قالب ما طبقا لقناعاته الأيديولوجية، واحتجاجه على اشتراكها بالتمثيل في أفلام أخرى يعتبرها ضمن السينما الاستهلاكية (في الفيلم ينشأ نزاع بينهما بعد قبولها العمل في فيلم “بذرة الإنسان” للمخرج الإيطالي ماركو فيريري). إن أيّ مشاهد محايد لفيلم “المهيبة” لا بد أن يخرج بانطباع أن غودار أحمق وعنصري، نرجسي ومتمرد بدون قضية، كاره للبشر وعاجز عن الحب، منغلق على نفسه، يجري وراء الأوهام والشعارات الفارغة، يدمر علاقاته ويخسر بالآخرين دون مبرر. إنه يتشاجر مع صحافي امتدح أفلامه السابقة التي أصبح يتنكر لها. وعندما يسأله أحدهم متى سيخرج فيلما مثل “النفس الأخير” يشيح بوجهه، كما يستهجن ويسخر من الشرطي الذي يقول له إنه أعجب وزوجته بفيلم “احتقار”. هازانافشيوس (وهو يهودي ينحدر من أسرة من اليهود الليتوانيين) يتهم غودار بمعاداة اليهود، عندما يصرّح أمام مؤتمر طلابي بأن “اليهود أصبحوا نازيي اليوم” ويظل يتلاعب مرات عدة بالعبارة ويقلبها ويعدّلها على نحو هزلي. وغودار لم يكن يوما معاديا لليهود بل كان نقده لإسرائيل في إطار تعاطفه المعروف مع القضية الفلسطينية، وهو ما يتجاهله الفيلم بل يضعه ضمن سياق استفزازي مما يثير غضب الطلاب ورفضهم وإدانتهم فردانيته وبورجوازيته، وإرغامه في النهاية على مغادرة المنصة وسط صيحات الاستهجان، لكي يصرّح فيما بعد بتعال شديد -حسب الفيلم- بأن ما يعجبه من ثورة الطلاب الثورة وليس الطلاب! يمكن تصنيف فيلم هازانافشيوس في إطار الكوميديا الهزلية، وهو أسلوب يظلم كثيرا المخرج الكبير ويجرد مواقفه من أيّ عمق فلسفي أو فكري، ويصوّره مراهقا نزقا متقلب المزاج، متمردا دون قضية، غيورا بشكل مرضيّ، عديم الثقة في النفس، تتحطم نظاراته في كل مرة يتعرض لمطاردة الشرطة أثناء اشتراكه في المظاهرات، جبان يفرّ عند قدوم الشرطة، لكنه يتعثر ويسقط على الأرض بسبب يعزوه إلى سوء اختيار حذائه فيذهب ويشتري غيره، لكن قدميه تؤلمانه بسبب ضغط الحذاء الجديد فيقترح على زوجته الشابة وضع كتلة من أوراق الصحف المبتلة داخله حتى يصبح أكثر رقة. ينجح الفيلم في تصوير مظاهرات انتفاضة 1968 في قلب باريس، من خلال المجاميع التي تبدو كبيرة على الشاشة من المتظاهرين الذين يحتلون الشانزليزيه والساحات الباريسية الشهيرة، ولا شك أن التقنية الرقمية الحديثة لعبت دورا أساسيا في توليد هذه اللقطات المثيرة، كما يصوّر خلاف غودار مع المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي ولكن في شكل يفرغه تماما من محتواه الفكري والسياسي، ويصل إلى تصوير تدهور علاقته بآن ثم انفصالهما، ثم اتجاه غودار إلى “الإخراج الجماعي” حسب الوصايا الماوية، ثم كيف تبدأ شكوكه في اختياراته الأيديولوجية. تعليق صوتي يستخدم المخرج حجما قديما للشاشة من أفلام ستينات القن العشرين فتظهر الصورة بنسبة 1 إلى 2 تقريبا، كما يستخدم اللقطات “السلويت” التي يظلّ ينتقل بينها وبين اللقطات “الطبيعية على غرار ما كان يفعله غودار في أفلامه، ويستخدم التعليق الصوتي من جانب طرف محايد ربما يكون مخرج الفيلم نفسه، وهو يروي عن غودار ثم يقدم آن ويازمسكي التي تروي بصوتها عبر مقاطع الفيلم قصة علاقتها بالمخرج الشهير. والحقيقة أن الفيلم في معظمه يمكن اعتباره عن العلاقة بين الاثنين، ولكن ما الفائدة، وما الذي يستخرجه الفيلم منها سوى الكليشيهات الهزلية، وما الذي يضيفه لنا عن عالم غودار! تنجح ستاسي مارتن في القيام بدور آن ويازمسكي، معبّرة عن شخصية فتاة محبة عاشقة تشارك زوجها أفكاره، ثم كيف تدرك في نهاية الأمر استحالة الاستمرار في العيش معه (عاشت مع غودار 12 عاما). أما لويس غاريل في دور غودار، فلم يكن مقنعا بسبب ميله للكاريكاتورية والمبالغة، كما أنه لا يجمعه بغودار من حيث الملامح -رغم الماكياج- سوى نظارات غودار الشهيرة! إن “المهيبة” فيلم عن زواج وطلاق جون لوك غودار أكثر منه فيلما عن فكره وفنه وشخصيته القلقة الباحثة عن الحقيقة وعن الحق. لذلك لا نعتقد أنه سيكون له مكان في تاريخ السينما فغودار أكبر كثيرا من هذا الفيلم بل ومن هازانافشيوس طبعا! .... ناقد سينمائي من مصر