فاجأت الأوساط الثقافية بإعلان اللجنة المشرفة على منح جائزة نوبل بإعلان إسم الروائي الفرنسي باتريك موديانو فائزاً بالجائزة لسنة 2014 . لا لأنَّ صاحب (ليالى العشب) لا يستحقُ هذا التقدير، بل لأن الأمر يعود إلى عدم شهرة موديانو إعلامياً، باعتباره راغباً في العزلة ومتوارياً عن الأنظار ويؤثر الصمت. هذا الطبع في شخصية الكاتب ألقى بظلاله على أجواء رواياته وشخصياتها، إذ تدور أعماله حول شخصيات متشظية تبحث عن هويتها وتتابع الحلقات التي توصلها بذواتها من خلال إعادة تشكيل عالمها. كما أن الأمكنة التي تضم هذه الكائنات تتصف بطابعها المنغلق، وهي حانات وفنادق ومبان مهجورة. وبذلك يكتسب أدب موديانو خصوصية بحيث يتحدث بعض النقاد بأنه قد أسس لأسلوب جديد يُشار إليه بمودياني مثل كافكاوي. عالج موديانو مسائل وجودية بطريقة مبتكرة. كما أضاف صيغاً جديدة ينفذُ منها إلى موضوعات قد غدت ثيمات معظم أعماله. ما يشغل شخصيات باتريك موديانو هو البحث عن وسيط تستعيد من خلاله وقائع الماضي وبه يتم ملء المربعات الفارغة في سجلاتها إلى أنْ يتم إنجاز مشروع إعادة ترميم الذاكرة المتلاشية. بالإضافة إلى ذلك، يكون القلق كحالة إنسانية محتفظاً بحضوره لدى شخصيات موديانو حيث يستبد بها الظنُ في رحلتها لإيجاد قناة التواصل مع ماضيها، وذلك ما نراه بوضوح في رواية "شارع الحوانيت المعتمة" إذ يبدأُ "جوي" وهو الشخصية الأساسية بنبش السجلات المركونة في مكتبة المحقق الذي يشتغل عنده للعثور على ما يساعده لتكوين شكل ماضيه، إلى أن يهتدي إلى شخص "سيوتبا" وهو يزوده بصورة تجمعُ عدة أشخاص ويعتقد جوي بأنه يشبه أحدهم في الشكل والملامح. من هنا يحاول إثبات هذه الفرضية ويتصل بكل من يفك له جانبا من طلسم الصورة، وتتباين آراء الأشخاص الذين يحتك بهم بحيث يلتقي من لا يعرف شيئا عن الصورة أو تختلف تسمياتهم للشخص الذي يرى جوي بأنَّه يشبهه في الملامح. هذه الثيمة ستتكرر في رواية "آحاد أُغسطس" ولكن في الأخيرة يعولُ "جان" على الصورة لمعرفة مصير صديقته "سليفيا" بدلاً من أن يبحث عن هويته مثل بطل "شارع الحوانيت المعتمة". يذكرُ بأنَّ باتريك موديانو يستعين في جُلِ أعماله بالملفات والصور والصحف كأداة تموهية للإيحاء بالواقعية. أسماء مؤقتة تستهل رواية "آحاد أغسطس" بمشهد اللقاء بين البطل وبائع السلع والأزياء في أحد شوارع نيس حيث يعمل الأخير لصالح شركة فرانس كوير. حينذاك يبدأ الحوار بين الاثنين دون أن يتم التصريح بالأسماء ومعرفة ما يجمع الشخصين والظروف التي قد جمعتهما. ويكشف المتلقى بأن الراوي لا يجد ما يشجعه لإستمرار علاقته بهذا الشخص ولا يتخلص من حالة الأرتياب والتوجس من المقابل. وسبق له أن صادفه دون أن يتبادل الكلام معه. لكن عندما تصله رسالة من فيلكور يَعِده بأن يتغيب من حياته. موقفه يتغير يجوب الشوارع بحثاً عن أثره وهذا يترافق مع تداعي الذكريات لدى من يتكفل بدور الراوي وتتضح طبيعة العلاقة بينهما، كما تدخل شخصية سليفيا في مسرح الأحداث ويتبين دورها الأساسي في بناء الروابط بين الشخصيات بحيث تتحول إلى محور الرواية لاسيما عندما ندرك بأن ما يهدف إليه جان من وراء بحثه عن فليلكور هو معرفة مصير سيليفيا التي اختفتْ مع نيال الذي يدعي بأنّه من أصل أميركي وتحمل سيارته لوحة السفارة الأميركية. ومما يضفي مزيداً من الطابع الدرامي إلى تطورات الرواية هو الخبر المنشور عن انحراف سيارة وسقوطها فى واد في الليلة التي غابت فيها سيليفيا. هنا تأخذ الأحداث منحىَ جديداً. إذ يسترجع الراوي تلك الظروف التي تعرف فيها على سليفيا وزوجها فيلكور الذي قد أهداها حجراً كريماً عرف بصليب الجنوب وهي تهرب مع جان إلى نيس مُحتفظة بالهدية ولا يفتأ يحذرها من كشف صليبها على مرأى من الناس كأنه يتوقع ما يحل بصديقته بسبب الحجر الكريم، إلى أن تصبح فعلاً مجهول الأثر، وما يمتلك جان غير صورة قد التقطها مصور، تجمعُ سليفيا مع نيال وباربرا حيثُ يعتمدُ على هذه الصورة للتوصل إليهم. ومن ثَمَّ يكتشفُ بأن من كان يدعي نيال له اسمُ أخر، وهو يحترف اختلاس السواح القادمين إلى نيس. غموض مبرر تمتاز أعمال موديانو بأن غلالة من الغموض تلفها، لكن دون أن يكون هذا الغموض منفراً بل يجعل المتلقي مُنْدمجا مع أجواء الرواية ومتشوقاً لمتابعة ما تتعاقب من الوقائع. يمتزج في "آحاد أغسطس" نفس رومانسي مع تواتر أحداث ذات إيقاع درامي، كما أنها تحمل جينات موديانية بما نراه من الاهتمام بوصف الأمكنة والأبنية القديمة، مع الإشارات التي تحيل إلى زمن الاحتلال الألماني لفرنسا. يأخذ عنصر إيحاءات بصرية مساحة أعمال في صاحب "مجهولات" وتكتسح أضواء خافتة فضاءات رواياته، وينفتح على الموسيقى والسينما مثلما نجد أن بطل "آحاد أغسطس" يتذكر عنوان أحد الأفلام السينمائية، عندما لا يريد كشف خصوصياته وذكرياته مع سيليفيا لضابط الشرطة يقول لنفسه "ذكريات ليست للبيع". إضافة إلى ذلك يتبنى موديانو أسلوب الحوار القصير واللغة الانسيباية لتصوير المشاهد ولا يكون المتلقي منفصلاً عن عملية فك الأحداث المتشابكة التي لا يتسرع فيها الكاتب. تنتهي رواية "آحاد أغسطس" بأسلوب التدوير مع العنوان إذ آخر ما نتلقاه هو جملة تعيدنا إلى العنوان المكتوب على الغلاف حيث يتذكر الراوي اللحظات الهادئة التي قضاها مع سليفيا في آحاد شهر أُغسطس. قد تكونُ الحبكة التي تقوم عليها هذا العمل واردةً في روايات أخرى غير أنَّ ما يعطي عمل موديانو بُعداً جديداً هو قدرته على تناول المشاعر الإنسانية على مستوى أعمق بلغة مكثفة في إطار مساحات قصيرة.