تكاد تكون قصيدة الشاعر محمود درويش المعنونة “حنين” الوتر الرئيس الذي عزفت عليه الفنانة العراقية ليلى كبة كعبوش مقطوعاتها الفنية/البصرية في معرضها الأخير المعنون ب”بعيدا عن الشاطئ”. لن يرغب زائر المعرض المقام حاليا بصالة “أرت سبيس” البيروتية في أن يعرف أيا من النصين، أي قصيدة درويش أو لوحات الفنانة نهض على غنائية الآخر، لن يهمه ذلك أبدا، فثمة مدّ وجزر بين الاثنين من نوع آخر لا يتأثر بحركة قمر عادي، بل بتقلبات أقمار عدة في سماء حالة الفقد التي اختبرها الاثنان وإن بأشكال مختلفة، حالة فقد تعاطى معها الاثنان على أنها موطن بديل ليس للأوطان فحسب، بل للمغادرات الكبرى. إضافة إلى اللوحات متنوعة الأحجام والأشكال والمشغولة بشكل عام بالألوان الأكريليكية، في المعرض عمل فني/تجهيزي مستوحى من قصيدة الشاعر، تميز هذا العمل بتقشف بالغ الأثر تماما كشعر محمود درويش الذي يغوص في أعماق النفس دون أن يخسر أي شيء من قدرته على ملامسة المشاعر فقط بأطراف أصابع كلماته. نذكر بضع كلمات من هذه القصيدة التي تشكل ربما عصب عمل الفنانة في جميع لوحاتها المعروضة، يقول الشاعر “الحنين انتقائي كبستاني ماهر/ وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب”. البستاني الماهر لم يدع الفنانة وشأنها ولا لحظة من اللحظات التي رافقت إنجازها للوحاتها، وقد تمكن من إضفاء خصوصية لم تُر بهذا الكم من الدفق الشعوري في لوحاتها السابقة، وإن كانت هي الأخرى تعج بغنى بصري يبعد كل البعد عن فكرة التزين. تجلى هذا البستاني، صاحب اليدين الزرقاوين والدافئتين في الآن ذاته بالأسلوب الذي أسست بواسطته الفنانة طبقات لوحاتها التي غالبا ما شفّت أسطحها على بعضها البعض. وإذا كان بستاني درويش انغمس ب”تحويش” باقات من زهور “مغيبية” ليغطسها في ماء شعره لتولد من جديد، فالفنانة ارتأت أن تقارب أو تتبنى حرفية هذا البستاني بأسلوب آخر. فالناظر إلى كل لوحاتها باستثناء لوحتين أو ثلاث، سيجد نفسه وكأنه أمام مشهد واحد لا غير بصيغ غزيرة تتبدل معالمه جذريا تماما، كما يحدث في اللوحات المشغولة بالرمل الملون والمُقصّب بلمعة خجولة تشعّ هنا أو هناك في فيء الأشكال والزخرفات والحروف العربية التي نسجتها الفنانة بحرفية كبيرة تُنسي الناظر إليها أنها زخرفات شكلية، لتصبح مفاتيح سرية للولوج في عوالم ليلى كبة كعوش العاطفية. هذه لوحات تقول “أنا ما لست عليه وما أنا عليه ليس إلاّ للحظات قبل أن أكون.. غيري”، ربما هذا هو بالتحديد نوع الحنين الذي تعيشه الفنانة، ألوان فرحة بزوالها وتقلّب مشاهدها قبيل أن تغوص في عتمة الحرقة إلى زمن مضى وإلى مدن غادرت إلى غير رجعة. لطالما استعانت الفنانة بقوانين التكعيبية وتكسرات الضوء في لوحاتها، ولكنها في هذا المعرض جعلت من هذا الأسلوب أكثر إشارة إلى هشاشة التحولات التي تنخطف خطا في اللحظة التي يبدأ فيها المشاهد في تحديد أشكال الأمكنة التي أرادت الفنانة أن تتذكرها وتنقلها إلى وجدان زائري المعرض على أشكال جنائن معلقة على نبض خاطف. عنوان المعرض “بعيدا عن الشاطئ”، أي بعد هو هذا الذي تتكلم عنه الفنانة؟ تكثر في صالة المعرض لوحات بأشكال دائرية وأُخرى تحمل “دوائرها” في تركيبة اللوحات البنائية التي تتمتع بأشكال مربعة أو مستطيلة. انسيابات لونية وكأنها تداعيات شعورية، لأنها قبل أي شيء آخر، من نسيج خيال الفنانة أكثر من كونها وقائع رأتها الفنانة بأم عينيها، هنا بالتحديد يجيء دور “منظار” البحار المغادر بعيدا عن الشاطئ، على الأقل هذا ربما ما أرادت إظهاره الفنانة، فثمة لوحات لها في المعرض تأخذ شكل مقود سفينة قديمة أخذتها بعيدا عن العراق أولا، وعن باقي الدول التي عاشت فيها لفترات ثانيا، قبل أن تستقر في بيروت، مدينة التحولات الدائمة. يبدو جليا أن منظار ليلى كبة كعوش موجه إلى داخل نظرها وإن كان موجها بشكل خارجي نحو الأماكن المفقودة التي عرفتها الفنانة، وإلاّ ما الذي يبرر هذا الدفق الشاعري الخاص جدا بكل ما لا يكون إلاّ في عين الناظر؟ ضاعفت الفنانة من حلاوة العراق وعراقته عندما خلصته وخلصت صوره من موتها الآني ريثما يولد من جديد.