يعلّق التشكيلي العراقي محمود شبّر على أعماله الفنية الجديدة المعروضة حاليا في صالة “أرت سبيس” البيروتية قائلا “سوف تبقى لغة الفن هي لغة الجمال التي توثق لذاكرتنا رغم حجم الألم الذي يكتنفها. أحاول أن أجعل من أوجاعي كرنفالات للمحبة وللسلام”. ربما لم ينجح الفنان في جعل أعماله تنضح بالأجواء الكرنفالية المخصصة لاستنهاض المحبة والسلام، لكنها من دون شك استطاعت أن تجسّد فظاعة المعاني التي يعبّر عنها بأسلوب جماليّ يزخر بالفرادة وبعيد كل البعد عن المباشرة أو ضيق النظر في تفكيك وإعادة تشكيل المعاني بصريا. استقدم الفنان إشارات الطرق ودلالات الشوارع من بغداد قبل الغزو الأميركي، ثم عمد في محترفه إلى مضاعفة دلالاتها وتحميلها رموزا جديدة تختصر فاجعة بغداد وأثر الشروخات التي فككت أوصالها. حقق ذلك عبر سلسلة من التقنيات الفنية تراوحت ما بين رش الألوان أو محوها، وشقّ أسطحها المعدنية وتجريحها وافتعال الفجوات فيها والتقشرات التي تحيل المشاهد مباشرة إلى فصول المعارك الطاحنة التي دارت في شوارع المدينة، وربما في شوارع كل مدينة عربية من حولها. ليس محمود شبّر أول من استخدم إشارات السير في الأعمال الفنية، ولكنه قد يكون من أهم من أغناها بطبقات دلالية. الطبقة الأولى تشير إلى فترة ما قبل الحرب حين كانت ألوانها ساطعة وكلماتها واضحة ودقيقة تشير تماما إلى الأمكنة التي تشير إليها. أما الطبقة الثانية فهي تعود إلى أثر الحرب، فالكلمات باتت غير واضحة ولا تشير إلى الأماكن الشهيرة والصروح الحضارية، بل إلى أضرحة ربما تنتظر قيامة مرجوة ما. الفنان محمود شبّر لم يكتف عند هذه الحدود بتعنيف المربعات والمستطيلات المعدنية لتتمكن من اختصار ما مرّت به المدينة من حروب، بل عمد إلى رسم تلك الشارات في لوحات أخرى كتفصيل في قلب مشاهد عامة لمدينة بغداد، غابت عنها أشجار النخيل وغرقت في رمادية شتاء بارد لا ينتهي. في هذه اللوحات المشغولة بالألوان الأكريليكية تتحول الإشارت إلى هامات شبحية تنتصب “كالنحس” في وسط الرجاء، بالرغم من كونها العناصر الوحيدة التي تحمل آثار ألوان دافئة كالأحمر والأصفر. بدت هذه الإشارات في اللوحات وكأنها جسور دخانية مخصصة لنقل زائر المعرض بخياله إلى ما ينتظر المدينة في المستقبل. يبدو أن الفنان ليس متفائلا بما سيحل بهذه المدينة ولا بما سينتظرها من حوادث، وهذا ظاهر في أسلوب تقديمه لمدينة موحشة تكشف عن آثار الرصاص والقذائف والانفجارات على جدرانها وإسفلت شوارعها، مدينة أخلاها الفنان من ناسها وأرخى عليها ظلال ألوانه الداكنة. احتفظ الفنان بعامل الدهشة وحس الاكتشاف اللذين تميزت بهما أعماله الفنية السابقة. إذ وسط هذا الخراب “العامر” في شتى تفاصيل المدينة، والذي ألقى بثقل كاهله على الحاضر كما على المستقبل، ثمة اكتشاف لم ينضج في عين الفنان إلاّ بعد مرور سنوات على الاجتياح والغزو الأميركي. لا الديمقراطية التي تصوّرها على موعد مع وطنه هي الديمقراطية التي دُرّست في كتب الأنظمة السياسية، ولا الحرية جاءت مقرونة بالتطور، بل كانت مرفوقة ببرك الدم الدورية التي تركد طويلا تحت أضخم جسور بغداد. جاءت لوحاته “مستقبلية” تنضح بأسماء لشوارع شبحية وتعتمد أسلوبا تعبيريا تجريديا، لطالما عُرف محمود شبّر به. لعل عنوان المعرض “إلى الأمام سريعا” يكشف بدوره رؤية الفنان المستقبلية واستيعابه لفعل محو للمعالم الحضارية التي راكمها العراق عبر آلاف السنين، ولفكرة التدمير المنهجي الذي تعرضت له ولا تزال أهم مراكز المدينة الثقافية والاقتصادية. اللافت أيضا في هذا المعرض أنه ضمّ لوحات عديدة تحمل عناوينها في مضامينها، وفي ذلك تكثيف لفداحة المعنى الذي لا يمكن أن يحمل تأويلا مختلفا أو نظرة مغايرة. نذكر من الأعمال- العناوين “البنك المركزي”، “بغداد ترحب بكم”، “ساحة المنصور”، “مدينة صدّام” و“متحف الآثار العراقي”. ثمة أمر آخر يجدر لفت النظر إليه، فالفنان حينما وضع الإشارات الحديدية إلى جانب اللوحات، حيث ظهرت فيها هذه الشارات ولكنها مرسومة وملونة، كثف من تجربة النظر بشمولية إلى الأعمال المعروضة فاختلط الحسيّ الواقعي، بالتخيلي الفني تأكيدا على أن ما يراه المشاهد هو حقيقة فجّة لا خداع فيها. لا تشبه أجواء “مدينة” الفنان التي رأيناها في صالة “أرت سبيس- الحمرا” أجواء أعماله السابقة، فقد غاب الطفل- الراشد الذي برع الفنان في تصويره بشكله المحبب والطيّع كبقعة ماء صافية، واختفت تمظهراته الضوئية التي كانت تتميز في أحيان كثيرة بخفّة غرائبية وتظهير لوجع نفسيّ، سيتجدد بلسمه لا محالة. ربما هرع “أطفال” محمود شبّر إلى دواخل الأزقة والمنازل، ليس هربا من انطلاق “صواريخ الدمار الشامل” التي لم تكن موجودة، ولكن بررت الاجتياح الأميركي النهم، بهروبها من مواجهة الحقيقة التي بدأت تتجلى في اللحظة التي همّ فيها الفنان بحمل ريشته الراصدة لمدى الضرر الذي أصاب وسيصيب العراق وأهل العراق. لم نعثر على واحد من هؤلاء الأولاد في اللوحات، لكن بقي حضورهم من خلال الخربشات، خربشاتهم الغزيرة التي طغى عليها اللون الأسود وشيّد بها الفنان بنيان مدينته وتحوّلاتها الدامية.