بايدن يوجه بتعديل وضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    تعليقًا على هجمات لبنان.. بوريل: لا أحد قادر على إيقاف نتنياهو وأمريكا فشلت    نحو 30 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت خلال ساعتين    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    التحويلات المرورية الجديدة بعد غلق الطريق الدائري من المنيب تجاه وصلة المريوطية    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    «مرفق الكهرباء» ينشر نصائحًا لترشيد استهلاك الثلاجة والمكواة.. تعرف عليها    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    الحكومة تستثمر في «رأس بناس» وأخواتها.. وطرح 4 ل 5 مناطق بساحل البحر الأحمر    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    حكايات| «سرج».. قصة حب مروة والخيل    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    «زى النهارده».. وفاة الزعيم عبدالناصر 28 سبتمبر 1970    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بهاء طاهر : الفنانون والكتاب يعجبون بذواتهم ويعملون أبراجا عاجية
نشر في نقطة ضوء يوم 05 - 05 - 2011

"لقد حرصت في أول رواية (خالتي صفية والدير) أن أقول إن كل أحداثها من نسج الخيال. ليس بالضبط، فجنين الخيال ايضا هو الواقع. ومن ذلك فإن أبي كان شيخا أزهريا تقيا وقد ربانا لنكون مسلمين صالحين، وادعو الله ان نكون كذلك، وكان هو نفسه يتعامل مع الناس جميعا بخلق الإسلام الصحيح، وأشهد الله أنني لم أسمع منه يوما فى حياته كلمة تفرق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي. ومن هنا فإن هذه الرواية مهداة أيضا الى روحة والى كل من يحبون الوطن".
هكذا يقول الاديب والروائي بهاء طاهر في مقدمة رائعته "خالتي صفية والدير" والتي تحولت الى مسلسل تلفزيوني وحصلت على جائزة "جوزيبى اوكيربي الايطالية".
وهو مثقف كبير يؤمن بوحدة الفنون. وناشط سياسي وثائر له مواقف مشهودة من أجل الوطن. فهو من الرعيل الاول لحركة "كفاية" ولم تحدث مظاهرة في القاهرة فبل ثورة 25 يناير الا كان عضوا فيها وأحد دعاتها. وقد تعرض كاتبنا الكبير مرتين الى الاعتداء عليه من قبل أفراد الشرطة اثناء مظاهرة المثقفين المصريين بمنطقة وسط البلد فى مساء 3 يناير/كانون الثاني 2011 والتى نددت بحادث تفجير كنيسة القديسسين وشارك فيها ما يقرب من 300 مثقف وقد اصطفوا بالشموع تعبيرا عن غضبهم!
وبهاء طاهر أيضا كان ممن انخرطوا في ثورة 25 يناير وحضر كثيرا في ميدان التحرير، وله حوارات عديدة مع شباب الثورة. ليس هذا فقط بل انه رد "جائزة مبارك للاداب" والتي حصل عليها عام 2009 و وقال إنه لا يستطيع أن يحملها بعد ان أريقت الدماء الذكية للشباب واستشهد المئات في ميدان التحرير.
ومن هنا كان لنا حديث طويل معه حول الفن والادب والثورة. وليس اجمل من البدايات الاولى التي شكلت عالمه الانساني.
يقول بهاء: نشأت في أسرة كانت كبيرة العدد وكانت رقيقة الحال. الأدق انها اسرة متوسطة الحال، ثم انزلقت عدة درجات. كان الراحل مدرسا للغة العربية. درس في الأزهر وتخرج في دار العلوم في العشرينيات من القرن الماضي. أنجب تسعة من البنات ومن البنين وكنت أصغرهم. وقد ظل تجواله مدرسا في أنحاء القطر الى ان انتهى به الى الجيزة فظللنا نقيم بها.
وكان هو وامي من من الصعيد، ومن قرية الكرنك على وجه التحديد في حضن المعبد الشهير. وقد ظل ابى حتى نهاية العمر يحلم بان يبنى بيتا هناك ويعود ليقضي آخر ايامه فى مسقط رأسه غير أن ذلك الحلم لم يتحقق إلى ان توفى وأنا في السنة الاولى من الجامعة. ولم اعش انا في القرية الا في اجازات قصيرة. مع ذلك فقد كنت اعرف عنها أدق التفاصيل والتطورات. فقد كانت قريتى هي امي التي تركت القرية في السادسة عشرة من عمرها بعد زواجها من ابي وتنقلت معه أثناء عمله في عدة مدن. ولكن القرية ظلت تعيش في داخلها حتى نهاية عمرها، وكانت تملك موهبة غريزية في حكاية القصص "هي التي لم تتعلم القراءة ولا الكتابة". وكانت تمارس تلك الهواية باستمرار لاسيما عندما يزورنا أقاربنا من الصعيد فتتبادل معهم الأخبار والحكايات وتجدد معلوماتها عما يحدث هناك أولا بأول. وكانت أحب اللحظات إلى في فترة الطفولة وفيما بعد الطفولة حين استمع إليها تحكي هذه القصص باستغراق كامل وتفاصيل دقيقة وبلغة البلدة وتعبيراتها. كانت مازالت تعيش في النجع الذي ولدت فيه. لذلك فقد أهديت اول رواية لي وهي "شرق النخيل" إلى ذكرى أمي التي تعلمت منها حب الحكايات وحب الصعيد.
* وماذ ا عن التلقى الأول للتعليم؟
- بعد أن تعلمت مبادىء القراءة والكتابة فيما كانت تسمى بالمدارس الإلزامية، وبعد ان حفظت جزءا من القران الكريم في أحد الكتاتيب بمدينة الجيزة، دخلت مدرسة الجيزة الابتدائية. كانت المدرسة بالنسبة لي شيئا جميلا ومخيفا في الوقت نفسه. كانت عالما مختلفا بنظامه الصارم وله مباهجه الصغيرة. وأذكر ان كل منا كان يحمل في حقيبة المدرسة قطعة صغيرة من القماش لكي يمسح عن حذائه التراب ويلمعه. هذا قبل ان يعبر من الباب الخشبي الى فناء المدرسة. ذلك انه كان هناك شخص رهيب يمر في الصباح على صفوفنا المتراصة لكي يتأكد أن كل شيء على ما يرام. وكانت هيبته تزداد بسبب ذكر اسمه اذ كان يدعى "الضابط". وكان فارع الطول يلبس بنطلونا رماديا وجاكيتة كحلية وفي يده خيرزانة رقيقة لا تفارقه. ولكني أخطىء؛ لم يكن واحدا بل كان عندنا ضابطان أحدهما ينتقد أحوالنا. من كان شعره او أظافره أطول من اللازم أو من كان حذاؤه متسخا او جوربه متهدلا. يخرج من الصف ويعاقب. والضابط الآخر يقف الى جوار الناظر الذي يشرف على صفوفنا جميعا ونحن نغني النشيد الملكي: "بالمليك يا بلادى اسعدي ** للمليك يا بلادى اهتفي".
وحين نصعد الى فصولنا كان لكل مدرس خرزانته الخاصة. الاستاذ موسى مدرس اللغة الإنجليزية الذي كان يصر على أن يمتحننا كل صباح في هجاء ما تعلمناه من الكلمات، وعلى أن نستخدم كل كلمة فى جملة مفيدة من تأليفنا. لا من الكلمات المقررة. والاستاذ عبدالفتاح مدرس اللغة العربية الذي كان العرق يتفصد من وجهه الاحمر صيفا وشتاء وهو يشرح لنا القواعد والإعراب، والاستاذ الزمراني مدرس الحساب القصير القامة والذى كان يملك أطول عصا في المدرسة، ينهال بها على من يتلجلج ولو لثانية واحدة في جدول الضرب. لكم ادعو الهج لهم جميعا الآن بقدر ما بذلوا من جهد في تعليمنا.
لم يكن هناك ايامها دروس خصوصية ولا غش في الامتحانات كظاهرة عامة ولا مدرسة المشاغبين ولا هزل في التعليم من أي نوع. كانت المسألة في منتهى البساطة: نحن في المدرسة لكي نتربى ونتعلم وهم يبذلون جهدا لذلك ونحن في الغالب نستجيب. غير أن المدرسة لم تكن هي هذا وحده فقد كانت هناك أيضا حصص الأشغال والفلاحة والرسم والهوايات وكان مدرسوها أكثر ودا وقربا إلينا وكانت هناك أيضا صداقات الطفولة الجميلة والألعاب الكثيرة التي كنا نخترعها في فسحة الغذاء الطويلة.
واظن اننا كنا في بداية السنة الثالثة الابتدائية عندما دلنا زميلنا أحمد الجبالى على اكتشافه الجديد الرائع: "روايات الجيب". ومن وقتها بدأنا نتبادل في حرص وخفية ارسين لوبين، وشرلوك هولموز، وروكامبول .. وكانت "روايات الجيب" تدهشني احاينا الى جانب لوبين وهولمز باشياء تحيرني لم اسمع بها من قبل اسمها "انا كارنينا" او "الجريمة والعقاب" او "مدام بوفاري". لم اكن افهم هذه الروايات جيدا ولكنها كانت تحفر شيئا في نفسي!
وعندما وصلنا الى السنة الرابعة وكانت شهادة مهمة جدا. ذات صباح ربيعي. وقبل ان نغادر الطابور ونصعد فصولنا. نادى الضابط الذي يقف عليّ وكرر النداء في عصبية مردفا التلميذ في رابعة أول. وهكذا خرجت من الصف وسرت مرتعش الساقين وحين وصلت أدهشني أن الناظر تلقاني بابتسامة. ثم وضع يده علي وهو يقول مخاطبا الصفوف بصوت مجلجل "زميلكم التلميذ .." ثم راح الكلام يأتيني من بعيد وكأنني في حلم.
قال الناظر إن امتحان نصف السنة في فصلنا كان يطلب إلى التلميذ كتابة قصة عن موضوع معين. قال إن مدرس اللغة العربية فعل شيئا لم يحدث في تاريخ الدرس من قبل إذ اعطانى في هذه القصة الدرجة النهائية. وقال ان المدرس أعطاه القصة ليقرأها فبكى تأثرا "كان الموضوع في الغالب منفلوطيا حزينا غير انى الآن لا أذكره". وقال إن القصة أدهشته واللغة أدهشته. وفي النهاية قال إنه لهذا وذاك فقد أمر بأن تكون القصة موضوع درس إملاء على جميع فصول المدرسة لكي يفيد منها كل التلاميذ. وكان ذلك هو أول مجد حصلت عليه من كتابة القصة.
* قلنا له: وماذا عن المرحلة الثانوية، وما كان يحدث في ذلك الوقت من مظاهرات؟
- التحقت بمدرسة السعيدية الثانوية. ولا بد ان اشير ولو مجرد إشارة الى مظاهراتنا كطلبة ضد الانجليز وضد الملك فاروق الذي ازعم ان اول مظاهرة حاشدة خرجت تهتف بسقوطه كانت هي إحدى مظاهرات السعيدية الثانوية. وفي تلك الايام كانت اهتماماتنا تشمل الوطن العربي ان لم يكن العالم كله. فقد خرجنا في مظاهرات ضد فرنسا بسبب جرائمها في تونس والجزائر، وضد الإنجليز من أجل العراق، وضد الصهيونية من أجل فلسطين. كان ذلك في السنوات التي سبقت الثورة. وكان من اساتذتنا من يعلمنا الوطنية كجزء من المقرر وأذكر مثلا الأستاذ السعدني مدرس التاريخ والذي كان يعلم انه يغامر بوظيفته حين يحثنا على التظاهر ضد الملك ولكنه كان يعلمنا ايضا ان نغامر حبا للوطن وكم من مرة ضربنا الجنود بالهراوات في تلك المظاهرات وكم من مرة سمعنا لعلعة الرصاص!
* وماذا عن بداية علاقتك بالفن التشكيلي؟
- علاقتى بالفن التشكيلي بدأت في ذلك الوقت ايضا وقبل التحاقى بالجامعة، وكنت محظوظا من بداية حياتي فقد اكتشفت مكتبة الفن التي كانت في اول شارع قصر النيل، وهي مكتبة حكومية عبارة عن فيلا جميلة تحيط بها حديقة اجمل. تحتشد بزهور النرجس والتمر حنة والبانسيه. ويتوسطها تماثيل لمثالين أجانب ومن مصر. من بينها بالطبع تماثيل لمختار. هناك كنت تذهب تستمع الى ما تحب من الموسيقى الكلاسيك. وفوق ذلك، بداخل الفيلا أحدث الكتب في الفن التشكيلي في ذلك الوقت. كتب عن جوجان وفان جوخ ومونيه ومانيه واخرى عن بول كلى وكليمت وبيكاسو وبراك.
وما أجمل الجلوس على الجنينة في الصيف بجوار تمثال الخماسين والموسيقى تصدح ببيتهوفن أو موزار وربما تشايكوفسكي أو كورساكوف. وفي ذلك الوقت تعرفت على عدد من الفنانين ربما كان من بينهم مصطفى أحمد، ولكن من المؤكد كان منهم حسن سليمان. وكان صبري موسى يرتادها أيضا.
وانتقلت الصحبة مع مكتبة الفن الى أغرب مقهى في القاهرة في ذلك الوقت، مقهى "باستوني" وهو عبارة عن "نصبة" صغيرة تطل على القنصلية الفرنسية، مجرد نصبة للشاي والقهوة. واذكر بكل إعزاز أمسيات الصيف على الرصيف. أنا وحسن سليمان ومصطفى احمد وجورج البهجوري وصبري موسى. كان ثمن كوب الشاى قرش صاغ وأمامك شارع سليمان باشا وأحدث الموديلات وأكثر الفترينات أناقة. كانت القاهرة في ذلك الوقت من أنظف وأجمل مدن العالم. وخلال هذه الجلسات تدار الخناقات والخلافات والتحزبات للخلاف حول تقييم فناني العالم. وهي خناقات بريئة من نوعية: هل مودليانى افضل من شاجال؟ وأظن ان مصطفى أحمد كان من محبي مودلياني. وربما كان حسن سليمان يتحمس للظلال الشاعرية عند فرمير! وكانت الجلسات لا تخلو من مناقشات في الأدب يتزعمها صبرى موسي حين يقرأ علينا قصصه القصيرة. وكان متحدثكم المتواضع يقرأ مشاريعه في القصة القصيرة ايضا. فكانت هذه الفترة بالغة الاهمية في حياتنا عموما. حياة الشلة!
وحدثت الثورة في اثناء تلك الفترة 1952 وايضا حدث انقسام في الرأي بسبب هذه الثورة فقد كنا نتظاهرمن قبل ضد الملك والفساد وكل المدارس الثانوية في ذلك الحين كان تعاني من بلوك النظام المقابل للأمن المركزي حاليا مع الفارق الكبير. فقد كان مجرد عسكري يحمل عصاية ودرع صفيح. ولم يكن هناك قسوه مثلما يحدث الآن. فلم يحدث أن عُذب طالب بسبب اشتراكه في مظاهرة، ولم نسمع عن الزنازين التي تحت الأرض. مجرد يستدعوا ولي امرك ويمضي على أنك "حا تبطل" شقاوة ويتسلمك!
وما أريد ان اقوله إننا "مجموع الطلاب" لم نعادي الثورة كما كنا نعادي حكومة الملك. ولكني أريد ان اقول إن صراعا قد نشأ لا بيننا وبين الحكم فحسب – بل ان الصراع نشب في وجداننا أيضا بين تأييدنا لما لما تفعله الثورة ضد الإنجليز ومن أجل استقلال الوطن والنهوض به وبين كراهيتنا لحكمها الباطش في لحظات معينة مثل تأميم القناة أو حرب بورسعيد. كان الجانب الأول يطغى فنؤيد الثورة تأييدا جارفا ونعرض حياتنا دفاعا عنها وفي أوقات أخرى مثل أيام حملات الاعتقالات أو جلسات محاكم الثورة الكابوسية التي كانت تذاع في الراديو لم يكن الرعب أو الغضب يتركان مكانا لأي حب أو تأييد!
ولا أذكر من فينا الذي حرضنا على دخول حفلات الأوبرا. طبعا باعتبارنا طلبة أثرياء مش لاقيين ثمن كوب الشاي! كنا ندخل "زيرو وقوف" يعني تدخل ورأسك في السقف. نشاهد اوبرا لاترافياتا واوبرا لابوهيم. وبجوارك الطلاينة والجريج اللي ريحتهم جبنة رومى وبسطرمة! وتحت منهم الأميرات من الأسرة المالكة. نسل شاه ونيفين حليم بنت عباس حليم، وأقصى شيء أن تنظر اليهم من فوق.
* وصحبة الأدب في كلية الآداب فترة المرحلة الجامعية؟
فى كلية الآداب بجامعة القاهرة تعرفت على مجموعة من الطلبة يكتبون القصة والشعر والنقد. كان هناك رجاء النقاش وشقيقه القاص المبدع وحيد النقاش الذي رحل عن الحياة في شرخ الشباب وترك في نفسي جرحا لا يشفى. وكان هناك القاص مصطفى أبوالنصر والكاتب صبحي شفيق الذي عرف بعد ذلك باهتماماته السينمائية والشاعر محمد سليمان شقيق حسن سليمان والذي عرفنا على مجموعة من النحاتين والرسامين. وكان هناك أيضا معوض بولس ويوسف السيسي اللذان أضافا إلى مجموعتنا بعدا موسيقيا، وفي نهاية المرحلة الجامعية أو ربما بعدها مباشرة انضم الينا سليمان فياض والقاص الأردنى غالب هلسا صديق أجمل سنوات العمر، والذي رحل كذلك عن دنيانا فجأة بعد عمر معذب تشرد خلاله في أكثر من عاصمة عربية، ولعل ما أوجعه فيه هو إبعاده عن القاهرة التي قضى فيها ربع قرن من عمره القصير وأحبها الحب كله.
وفي سنوات التكوين تلك كان كل واحد من المجموعة الصغيرة يقدم للآخرين شيئا: عرَّفنا رجاء النقاش على مجلة الآداب البيروتية. وكان من كتابها وهو بعد في السنة الأولى بالكلية. فاكتشفنا الشعر الجديد للسياب وصلاح عبدالصبور وحجازي والبياتي وقصص جبرا إبراهيم جبرا وفؤاد التكرلي وشوقي بغدادي وكل تلك المدرسة الرائعة التي احتضنتها "آداب" سهيل ادريس. وقدم لنا مصطفى أبوالنصر اكتشافه الخاص: نجيب محفوظ الذي كان يطبع طبعات محدودة من أعماله المبكرة. وأهدى لنا صبحي شفيق ووحيد النقاش الأدب الفرنسي: مارلو وسارتر وسيمون دي بوفوار. وكنت أقدم لهم دراسات وترجمات في موضوع بدا غريبا: الأدب اليوناني القديم، وربما كان ذلك بسبب عشقي المبكر والدائم لأمرين: المسرح وأدب طه حسين.
* مرة اخرى نعود إلى حسن سليمان: ما هي شهادتك حول أعماله، وهل استمرت علاقتك به أم الغربة الدائمة وسفرك المستمر وإقامتك لفترة طويلة بسويسرا باعدت بينكما؟
- علاقتى بحسن سليمان استمرت العمر بأكمله ورغم سفري إلا انني كنت على اتصال دائم به عند عودتي الى القاهرة. ولكن حدث أنني جئت في زيارة سريعة إلى القاهرة لمدة أربعة أيام واذا بسكرتيرتة تتصل بي قائلة: البقية في حياتك. جنازة الأستاذ حسن في جامع الكخيا. كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي. فعلاقتي به تحتاج رواية. كان فيها شد وجذب طول الوقت وقد كتبت فيه رثاء في مجلة "الكلمة" الإلكترونية.
حسن سليمان من قبل ومن بعد رجل متفجر الموهبة وكانت أعماله من أول فترة الشباب قد بدأت تلفت نظر زملائه وكل نقاد الفن وكانوا في ذلك الوقت أجانب "طلاينة" و"فرنسويين" وكانوا يكتبون في البروجريه والاجيبسين جازيت كثيرا حول موهبته الكبيرة، وأنه شخص واعد ومبشر. وأذكر أنه بعد حرب 1956 أقيم معرض بالغرفة التجارية بباب اللوق شارك فيه مع معظم أبناء جيله من بينهم عزالدين حمودة وعبدالرحمن النشار وربما مصطفى احمد وبهجوري. كان ذلك لدعم المجهود الحربي وكان حسن سليمان عامل مجموعة لوحات فاتنة وبديعة عن الأحصنة. كانت رمزا للحرية والانطلاق. أحصنة حمراء تكاد تطير من فرط خفتها ورشاقتها ولم يكن معي وقتها خمسة جنيهات ثمنا لواحدة من تلك اللوحات، وفاتت الفرصة ورغم هذا فضلت لآخر مقابلة أحلم بلوحة لحصان من أحصنته حتى انني قلت له: قربت أموت وعايز لوحة للأحصنة. وكان تعليقه بسخريته التي اشتهر بها: ولما حتموت حتفيدك بأيه .. ولم يتحقق حلمي.
* تقديرك للحالة الثقافية والفنية المصرية الآن ورؤيتك البيانية؟
المسألة في غاية الصعوبة. الفن قبل الثورة بداية الخمسينيات كانت وزارة المعارف تتضمن الثقافة، وكان الوزير د. طه حسين وهو الذي رعا إنشاء المكتبات العامة. وقد أراد أن ينفذ ما ورد في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، على أن تكون الثقافة الحرة ثلث منهج التعليم. وكان يوزع علينا في الدراسة في ذلك الوقت كتب وروايات بالمجان وهي خارج الامتحان مثل "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و"المهلهل سيد ربيعة" لمحمد فريد أبوحديد. و"أبوالهول يطير" لمحمود تيمور. وكنا نقرأها بحب وتوق وشغف. يعنى كان هناك رؤية للفن والثقافة بوجه عام لم أرها بعد الثورة إلا في عهد ثروت عكاشة. كان صاحب رؤية. يشجع الفن الرفيع والأدب كما كان يرعى المسرح الجاد متمثلا في أعمال نعمان عاشور ومحمود دياب وميخائيل رومان وغيرهم. كما أن قوافل الثقافة الجماهيرية نشرت النور الثقافي في بقاع مظلمة تماما.
* وماذا عن تصورك لمستقبل الثقافة وهل أنت مع تفكيك الهيئات الثقافية؟
- تفكيك الثقافة أو البقاء عليها القضية الأساسية أن تكون الثقافة كالماء والهواء وأن يتم التأكيد على أن المستحقين للثقافة هم أبسط الناس، وأن نوجه كل الجهود لرفع المستوى الفكري والثقافي للإنسان المصري في كل مكان بامتداد أقاليم مصر بعيدا عن مهرجانات العاصمة والتركيز على أنواع من الإنتاج الفني لا تصل إلى الجماهير.
ومع هذا كل ما أخشاه في نطاق التفكيك وترك الحرية كاملة أن الفنانين والكتاب يعجبون بذواتهم ويعملون أبراجا عاجية. وهنا لا بد من أن يكون هناك نوع من التوجيه من قيادة واعية بمعنى أن تكون هناك استراتيجية للثقافة وسياسة واضحة ذات رؤية شمولية يكون هدفها المواطن المصري.
* وماذا عن دور المرأة في حياتك؟
أظن أن أي كاتب او فنان المرأة تلعب دورا كبيرا في حياته. وقد كنت محظوظا مع المرأة خاصة والدتي فهي التي ربتني، وهي التي أعطتني قدرا هائلا من الحنان عشت عليه طول عمري. هذا مع بعض من عرفت من النساء وبناتي أيضا. كنت محظوظا في علاقاتي بالمرأة رغم الانتكاسات العاطفية.
* ولو خيرت أن تكون وزيرا للثقافة حتى ليوم واحد ما هو أول قرار سوف تتخذه؟
- لم ولن أكون وزيرا للثقافة في يوم من الأيام!
* أستاذ بهاء: هل تؤمن بالحظ في الأدب والفن؟
- طبعا يلزمك دفعة من الحظ من أجل تحقيق ذاتك، أما لو لم تكن موهوبا وأوتيت من الحظ الكثير فلن ينفعك!
* ألست معنا في أن هوس الكرة يطغى على الفن والأدب؟
- شيء طبيعي، وهذا يحدث في كل أنحاء العالم. وكانت الكرة تستخدم وسيلة للانشغال والاستغراق أثناء الحرب الباردة ونحن نفس الشيء. وهناك كاريكاتير للفصيح صلاح جاهين يصور فرقة كرة "وواحد من الجمهور ماسك عصاية وبيجذب لعيب من رقبته وبيقول: ألعبوا أحسن وإلا حنهتم بالسياسة!".
* وماذا تقول عن ثورة 25 يناير؟
- مستعد أن أموت بكل رحابة صدر. أموت الآن بعد الثورة، ففرحتي حاليا تكفي عشرة أعمار، ولو جاء الحزن لأي سبب أخصمه من فرحة عمر واحد، وأعيش بتسعة أعمار!.
* وهل تخطط لعمل أدبي من وحي ميدان التحرير؟
- أنا ممتلىء بما حدث وربما يعني شيئا. ولكن هناك أعمال فاتنة ظهرت بالفعل من بينها: "كان فيه مرة ثورة " لمحمد فتحي، و"يوميات ميدان التحرير – مئة خطوة من الثورة" لأحمد زغلول الشيطي.
***
حصل بهاء طاهر على ليسانس الآداب في التاريخ عام 1956 ودبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة إذاعة وتلفزيون عام 1973. وعمل في البداية مترجما في الهيئة العامة للاستعلامات ومخرجا للدراما ومذيعا في إذاعة البرنامج الثاني الذي كان من أحد مؤسسيه حتى عام 1975 حيث مُنع من الكتابة في ذلك الوقت وترك مصر وسافر إلى آسيا وأفريقيا، وعمل مترجما في الأمم المتحدة بسويسرا بين عامي 1881 – 1995.
ومن أهم أعماله: الخطوبة – بالأمس حلمت بك – أنا الملك جئت – خالتي صفية والدير – الحب في المنفى – نقطة النور – واحة الغروب التي حصل بها على الجائزة العالمية للرواية العربية – ولم أكن أعرف أن الطواويس تطير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.