مازال الطفل الذي تركه الشاعر العماني سيف الرحبي في كتابه “شجرة الفرصاد” عند منحدرات الأودية وسفوح الجبال القاسية يقود أشواق روحه في سفر لا ينتهي باتجاه تلك التخوم، التي تتداخل فيها طفولة الذات مع طفولة المكان، تعبيرا عن دوافع نفسية، لاستعادة تلك البدايات التي أسست لوعيه الأول، وعلاقته بالعالم والأشياء والذات وسط جغرافيا مسكونة بالعزلة والأسرار. لا يؤرخ الرحبي في كتابه الجديد، الصادر عن منشورات الجمل، لطفولة الذات في اكتشافها الأول للعالم أو المكان العماني، بل يعيد سردية تلك التجربة بوصفها لحظة البداية الأولى، التي يعجز عن استعادتها، ما يجعل الكتابة محاولة للتعويض عن هذا الذنب بلغة سوران التي يصدّر بها عمله الجديد، وتواصلا مع الهاجس الأساس الذي تنشغل به أغلب أعمال الشاعر النثرية والشعرية، على مستوى التجربة، التي تتمحور حول العلاقة الحميمة والعميقة مع المكان، باعتباره خزانا للأفكار والمشاعر والجمال، ينسكن به، وهو ما يمكن الوقوف عليه في أغلب عناوين أعماله، التي تشكل مفتاحا تأويليا يستطيع القارئ من خلاله أن يطل على أفق التجربة. الحديث عن المكان في أي تجربة هو حديث عن الزمان، إذ لا مكان دون زمان، ولا زمان دون مكان يتعين به. تتجلى هذه العلاقة الجدلية في تجربة الشاعر عبر علاقة الطفولة بالمكان، حيث يشكلان الفضاء الذي يرحل فيه دائما ويحاول أن يجعل من بلاغة حضوره حالة شعرية تفيض بالمعنى والدلالة، على عالم تتداخل فيه حيوات الكائنات على اختلاف أنواعها، في تناغم وجداني وروحي، يدل على وحدة هذا الوجود وروح الكون الواحدة “تتوحد الجماعة والحيوان والنبات في روح كونية واحدة تتوحد وتذوب في غيمة زرقاء شاسعة تنزل حمولات مطرها على جروح الأرض وأوجاعها، تتوحد وتنصهر أكثر مما تفعل في مناسبات الأعياد الدينية والاجتماعية وحين تنزل الأمطار في مثل هذه المناسبات يكون الفرح عارما، يحمل البشر على الطيران في فضاء القرية بدل المشي على الأرض”. يحمل المكان العماني خصوصيته النابعة من خصوصية الموقع والطبيعة والتاريخ والحياة التي تتآلف مكوناتها الاجتماعية والدينية على الرغم من قسوة الطبيعة والحياة الرعوية التي يعيشها الناس هناك. لذلك يحاول الرحبي أن يستعيد بلغة شعرية مكثفة وموحية هذا التاريخ الموغل في التفاصيل والوقائع والأسماء، حتى تبدو بلاغة اللغة هي التجلي لشعرية المكان وبلاغة حضوره في الذاكرة والوعي الجمعي. يظل عالم القرية بأسراره وإيقاع حياة ساكنيه الرتيب وتفاصيله اليومية هو محور التجربة وكأنه يعيد اكتشاف حكاياته وقصصه من جديد، باعتبارها جزءا من قصص وحكايات الطفولة التي عاشها، وكانت علامة على وجود عاشه في تلك الأماكن القصية والمعزولة، طبع حياته وحياة جيله بسمات خاصة، تداخلت فيها عوامل الطبيعة، مع ثقافة المجتمع وخصوصية المكان بامتداداته المفتوحة على سواحل البحار والمحيطات، ما جعل سيرة الناس لا تنفصل عن سيرة المكان في جدل العلاقة وتحولاتها. يذهب الرحبي في سرديته الشعرية المفتوحة على بلاغة حضورها نحو الماضي مفتونا بالتفاصيل الكثيرة، التي يستعيدها سواء ما يخص حياة أبناء جيله وبداية تشكل شعورهم بهويتهم الذكورية، أو ما يخص المجتمع العماني بعاداته وتقاليده وطقوس حياته اليومية، وكأنه بذلك يحاول التعويض بالكتابة عن قدرته على استعادة هذه التجربة، ما يجعل الكتابة تعبيرا عن شعور فادح بالزمن الذي يتسرب من بين أصابع يديه، ومحاولة لتأكيد القيمة الإنسانية المرتبطة بالمكان خاصة عندما يحاول أن يرفعها إلى مستوى الأسطرة “وإذا ركزت قليلا في مرآة الصمت السائل في الأفق، يمكن أن تحدس بالعظايا والزواحف الأخرى التي بدأت تتسلق الجدران المتصدعة، والعواء الجبلي المحتقن كبداية حدث يهم بالانفجار، حدث الحياة البسيطة وقد اقتربت ديكتها التي تبدأ خربشة الأوراق والصيحان التدريجي قبل خيوط الفجر الصادق التي ستبدأ الانتشار”. رحلة الذاكرة تنفتح الذاكرة على ماضي المكان بحثا عن ذلك التناغم القائم بين عالم الأشياء والكائنات، على الرغم من حالات الفقر والاشتباك الدموي التي لا تعكر انسجام هذا العالم الرعوي الواسع بامتداداته، وخرافاته التي تفوق فيها على بلدان كثيرة تجاوره، بسبب طبيعة تضاريس المكان المحمل بالرعب والعزلة والغموض. من هنا يبدأ الرحبي رحلته مع الذاكرة في عالم المكان والطفولة اليقظة، وقد تحول إلى موضوع للتأمل والاستنطاق بكل طقوسه وعاداته وعلاقاته التي لم تزل حاضرة في وعي الطفولة الذي يعيد بناء علاقته الدرامية معه، بعد أن درست كل آثاره وسط تحولات المكان والعالم. في هذه الرحلة في الزمان والمكان يعود الشاعر إلى البدايات الأولى التي أسست لوعي الطفل الذي عبر مجاهل هذه الأرض القصية، وعي سينمو ويتطور ليرسم ملامح شخصيته ويؤثر في خياراته، التي ستطبع حياته وعلاقاته مع العالم في ما بعد “وفي امتداد القيم وثباتها الذي لا تشوبه شائبة تعكر صفوه المتوارث عبر الأحقاب عدا ما يتناثر من أفواه القادمين من (العالي) والذين غالبا ما يكونون من دول الجوار أو المشرق الأفريقي أو الهند في حالة بندر مطرح، وأولئك الذين بدأوا بالاستماع إلى الراديو الذي يبث أخبارا ومعلومات تشبه الصدمات الأولى التي أخذت في خدش وعي فطري مستتب وقار، حيث بدأت تلك الأخبار المبعثرة اللامفهومة في الكثير منها تحرك (البرك الراكدة) أيما ركود”.