وثق التشكيلي اللبناني جميل ملاعب على امتداد ثلاثين عاما، من خلال ريشته للبلدان التي زارها فرسمها، ضمن لوحات جمعها في مرسمه البيروتي، لتوثّق ذاكرته بالأماكن، ويقدم بعضها في معرضه الأخير بصالة “ربيز” تحت عنوان “نيويورك، نيويورك”. أقول توثيق والكلمة يتلفظ بها كثيرا الفنان مع الكثير من العاطفة حتى تكاد الكلمة تفقد برودتها، لتصبح من صلب منطق فني يختلط فيه الواقع مع المتخيل والموضوعي مع الشخصي جدا. لعل ذلك من أبرز ما يتميز به عمل ملاعب الذي يعتمد على مشاهداته بشكل أساسي أثناء تخطيطه ونقله للمشهد على قطعة القماش أو الورق، ولكنه في الآن ذاته يضفي عليه نفحة من روحه، ما هي إلاّ وقع الأثر الذي طبعه المشهد أمامه في قلبه وعلى رؤوس أصابعه. قد يشبه هذا التوصيف ما يقال عن العمل الفني الانطباعي بشكل عام، ولكن ذلك لا ينطبق على عمل الفنان. فالرسام حريص على مصداقيته، لا يجب أن ننسى كلمة توثيق، ولكنه توثيق للواقع يقوم به بذهن متيقظ وسريع ترافقه يد حّرة. يخبرنا الفنان أنه مع مرور الزمن أصبح متأكدا أن سر النجاح في رسم مشهد من المشاهد يكمن في الدقة الكبيرة، والملاحظة القوية، ولكن مع ضرورة السرعة في التنفيذ. ويضيف قائلا: السرعة تمنع عقل الفنان من أن “يفبرك” أفكارا خاصة لا تمت إلى الواقع بشيء. على الرغم من اعتناق الفنان مذهب الصرامة في تركيب اللوحة فهو ليس مع الانغماس في الأفكار التي يستحضرها مشهد من المشاهد. الدهشة الأولى أن تراقب جميل ملاعب يتصفح أعماله المشغولة على الورق أو تلك المشدودة على إطارات خشبية بشيء من فرح الطفولة، يعني أن تدرك أن هذا الفنان لا يعرف إلاّ الإبحار من جديد، مرة تلو المرة في لوحاته أو في ذكرى المشاهد التي رآها، وكأنها تتشكل أمامه الآن ولأول مرة قائلة “يا هلا!”. ستعثر على الفنان في معرضه الفني الجديد في صالة “ربيز” الذي يحمل عنوان “نيويورك، نيويورك” يتأمل في بعض اللوحات المعلقة وتودّ لو تقطع عليه حبل أفكاره لتسأله: بأي ذكرى أنت مأخوذ؟ أما معرضه الجديد هذا، فهو في الجزء الأكبر منه استعادة لعدد كبير من أعماله الفنية التي أنجزها عن نيويورك خلال سنة 1984. كما توجد في المعرض ثلاثة أعمال له تعود إلى زيارته الأخيرة لها، وذلك خلال السنة الفائتة. بشكل تلقائي سيحاول الزائر أن يقيم المقاربات والمقارنات ما بين المرحلتين الفنيتين، ربما سيعثر على شيء من التجريد في اللوحات الجديدة، مما يذكر كثيرا بأعماله الفنية التي دخل فيها العنصر الهندسي بشكل واضح ليقيم الوصال والتراص ما بين مختلف المستويات الخارجية والداخلية، حتى “عصفوره” الشهير الذي اشتهر برسمه ملاعب في عدد هائل من الأعمال المتنوعة وبأجواء مختلفة لم ينجُ من محاولات التأطير، دون أن يسلبه هذا التأطير حريته وولعه بالزرقة المحيطة. لا نهائية الرحلة المباني النيويوركية في اللوحات الجديدة واضحة وأشكالها معروفة وألوانها التي تميل إلى الرمادي- الرصاصي بارزة وحاضرة. يبدو فيها الفنان وكأنه تبنى نظرة شمولية مترامية الأطراف لعبت في تشكيلها عناصر عديدة: عنصر الخبرة الفنية والمعرفة بالمدينة، والنضوج الشخصي الذي عرف كيف يقيم عناصر التجريد في أكثر اللوحات التشكيلية. ويبقى عنصر اختيار المشهد الذي انتقاه من بين كل المشاهد لكي يرسمه، وفي اختياره دليل واضح على هذه الرغبة والمعرفة الفنية التي تسعفه على احتضان نيويورك في لوحة واحدة. لوحة هي ليست لمشهد من المشاهد، بل مشهد فيه كل المشاهد، على الأقل، ذلك المشهد الذي استرعى انتباه واهتمام الفنان فاختصر فيه كل ما أراد أن يظهره حقيقة ورؤية في الآن ذاته. كتب الفنان في لوحاته الماضية عن نيويورك بضع كلمات لا تلبث أن تختفي، أو تصبح تمتمات بصرية مبهمة لا بد أنها عادت إلى قلب مُطلقها بعد أن انفلتت للحظات على سطح بعض أعماله الفنية. قال ملاعب في أحد الأعمال “نيويورك، كنت تمثلين لي الأمل الأخير في حرية كنت أحلم بها منذ زمن الطفولة”، وفي عمل فنيّ عائد هو الآخر لسنة 1987، يخط الفنان كلماته المبعثرة قائلا “كانت نيويورك محطة جديدة لنا بعد الحرب.. وكانت بيروت وكانت نيويورك قدرا آخر ينتظرنا في زمن الرحيل والتغيير”. إذا كانت هذه هي الكلمات التي أوردها ملاعب في أعماله الفنية تفصح عن بعض اختلاجاته، فلوحاته الجديدة تتوجه إلى الناظر إليها قائلة بلسانه “نيويورك، ها قد عدت وكأنني لم أغادرك أبدا”، هذا أمر آخر يميز الفنان الذي لا يدع الغبار يتراكم فيبهت من دهشته، بل يسعى دائما إلى صقل هذه الدهشة واستفزازها، الاستعادة عنده حلم آخر يودّ أن يبحر إليه من جديد. يقول الفنان بعفويته المعهودة “لقد رسمت كل شيء.. رأيت كل شيء، وغصت في قلب كل ما رأيت، أما الآن فأريد فقط.. أن أرسم، وأرسم لأملأ الفراغ، وأيضا.. أريد أن أرسم العصفور والعصافير”.