لم أزُر معارض للكتاب في مدن كثيرة، لكن مفاتيح الأمكنة تبدو متاحة، وفكفكة هندسات الأمكنة تلك، لا تبدو عصية على أي زائر، فالبساطة التي تجري بها الأشياء، بساطة غير نافية، تحتضنك، تمسك يد الضيف الجديد لتنسه الارتباك. وتمسح برفق على يد الزائر المعتاد، للمعرض أجنحة تتموضع على خريطة، وأحرف أبجدية تذكرك بالبدايات، فكله لغة، والوجوه في معرض الكتاب تحكي لغة واحدة «التهذيب» موظفون لائقون لا يتذمّرون من إلحاح الأسئلة للأجساد المرتبكة، ناشرون باسمون يرشدونك إلى صداقاتك القديمة، إلى التواقيع للكتاب الجدد، إلى الوجوه الأليفة للكتاب المفضّلين، اللدودين والرديئين. فالأحداث السنوية تستعاد كالفصول، كالأعياد، مع أنك تنتظر منها أن تأتي فقط، لكنك تحلم بفرح طفل، أن تأتي وتحمل التغيّر، مع أن في تكرار العادات أماناً لا يُضاهى، لكن في قلب كل استعادة مخلوق ملول ينتظر دهشته، عيده، فهل تتغيّر الأزمنة/الأمكنة، أم نحن مَن يتغيّر! معرض الكتاب مكان أولاً/ مكان أيضاً. فالبروتوكولات الأولية للاحتفال، يلزمها مكان ما، جغرافيا منفصلة عن واقع فظّ دائماً، هو واقعنا، فتعزل العواصم مكانها عن إرباكات المدن، وتشيد فقاعتها الآمنة، فتبدو الأمكنة متشابهة في خطوطها العريضة، ما بين بيروت والجزائر ودمشق، ولا تبدو المسافة بعيدة في أي شيء، ولا حتى في ثرثرات في الزوايا، أو كؤوس الشاي بالنعنع التي تتحوّل قهوة تركية، أو اسبريسو مرتجَل! نعم لم تتغيّر الخيم العملاقة، لم يتغيّر «النق» على البيع غير الكافي والزوار غير المهتمين، وحال الكتب الدينية، التي تتبخّر عن الرفوف، وتُلعن كتب الطبخ الممتعة، فرحة الصور والألوان، وتشمت كتب التنجيم بالجميع، نعم يشتكي الكل، ثم يتنهّدون «بماشي الحال». تكرار موحٍ وفي معرض بيروت، كأنّه لم يتغيّر شيء، لا الأماكن المفتوحة للغيم، للريح، والأمطار مخلوطة بالنقاشات، ولا حتى زعيق المكروفانات بأصوات المعلنين عن كل شيء، ندوات، تواقيع، أو حتى نداءات مستعجلة لأشخاص تائهين، المعرض صورة أيضاً، منعكس ميكروسكوبي لطبائعنا، فدور النشر مثلنا، تأتي أيضاً بكل عدتها، تكون متبجحة بعناوينها، بجدّتها، غنية بأغلفتها، فقيرة ومرتجلة، دلوعة، جدّية، لائقة، أو حتى عروس بائسة، لغمطت وجهها بمكياج بائس، ارتدت فستان زفاف أمها، تأبطت ذراع مكانيكي الحارة واصلة الاحتفال على دراجته الهوائية. وبرغم هذا التكرار، يحتفل أهل البيت بعيدهم، يحتفل الكتّاب، الشعراء، الروائيون بكلمتهم، بشخبراتهم على وجه الكون، برومانسية أن تقول كلمتك وتمضي متلبّساً روح الأنبياء، أو الثائرين، وفي الحالتين ممتلئاً بالتبشير. وتدخل مكاناً تشعره قدسياً، عملاقاً، رفوف مرتّبة، وكلما ازداد ترتيبها، ازدادت وحدتها، ونشف جسدها الذي لم تمرّ عليه يد مهتمّ، فتحزن وتنكمش، نعم فللكتب أيضاً وجوه، أحاسيس، قد يقفز كتاب ويستعرض قوامه، يتغندر أمامك، تشتهيه، فينتقل إلى غرفة نومك، ويستلقي في حضنك، وتضعه بالقرب من سريرك، منتشياً وموعداً بليلة أخرى من السحر. أن تزور المعرض كقارئ، يعني أن تلهو، تستمتع، تمارس نقداً عنجهياً، حاد الأطراف، مكسّر المرايا، أن تزور المعرض كقارئ، يعني أن تسترخي كثيراً، وتلعب لعبة القراءة، يعني أن تنسى روح الكاتب، أنانيته، أناه المتعاظمة ثلاثية الأبعاد/ المنتفخة بكروية مضحكة. تحزن أيضاً لكني مع كل هذا لم أنجُ، زرت معرض بيروت للكتاب هذا العام، بشمسه الملائمة، وحجمه الكافي للبهاء، بشبكة مواصلاته المعقدة، ومواعيد مع الأصحاب وضحكاتهم وروحهم المحببة، مع أني حاولت بزيارتي أن لا أتصرف كصاحبة كتب نشرت وتركت لتعيش وحدها، إلا أن مجرد رؤيتي العرضية لروايتي ملقاة كجثة على رف، قفز شيء ما داخلي وعضّني، لسعت، وتقلص كل ما فيّ، نعم تحزن أيضاً في معارض الكتاب، فكيف يستطيع أي كاتب أن لا يُبتلع، أن لا يكبح، وتنكمش روحه إن بحث في وعيه بعيداً، واستقصى مشاعره؟ كيف يستطيع أي كاتب، إن نظر حوله قليلاً أن لا يفقد إحساسه بالتميز؟ هل سيبدو محمود درويش وحيداً يوماً، هل ستبهت غربة كامو، ويهمل برابرة كويتزي، هل سيترك قرّاء ماركيز كتبه وينسون التعامل معها كأناجيل العصر؟ هل ستخفت شهرة المشهورين، وتأفل نجومية شافاق بطنافسها وأزيائها الشرقية؟ يغمرك الحزن، هذا الحزن الذي يلبس الشعر والشعراء الوحيدين، ألن يهرب الكل من عزلتهم، من كثرتهم، من انشغالاتهم وسماواتهم البعيدة ولغتهم الهائمة من دون أدلاء، هل ستبدو كتب التاريخ العربي أشدّ عزلة وقتامة، ولا مبالاة بإصداراتها والتنويعات على أسئلتها، كما تبدو الآن، والأوجع، قطع الحلوى على طاولات التوقيع، تلك القطع المزدحمة كالإصدارات المزدحمة، هل ستبقى كثيرة ولا يلتهمها أحد، أين سنجد أنفسنا، ذواتنا الكاتبة بين مئات الآلاف من العنوان، ألا نخاف الضياع؟ وتستشير الأصدقاء، بانفتاح وحب، تسألهم عن هذا الفعل الفاضح، عن الكتابة، عن الجرأة على استعادة روح الكاتب، فيجيبك صديق بخبرات طويلة «الوقاحة»، أن تكتب يعني أن تتحلّى بالوقاحة.. عن بيروت.. أبداً ودائماً! في مسرحية المحطة، تُخلق المحطة من أحلام الناس، من رغباتهم، حتى أن العيد، «شاف ناس، لحق الناس، وصار العيد». معرض الكتاب اليوم، هو سؤال الثقافة لهذه المدينة المنارة، منارة في مخيلة الكل، غرباء ومقيمين، متشفين ومحبين. المدينة الفتية، التي تأبى أن تهترئ، أن تتداعى، برغم كرمشات وجهها الأعزل، الأعزل من الخدمات، من الكهرباء والماء، من وطنيي السياسة والسياسيين، من خدمات النظافة العامة، وجو المدينة المخلوط بعمارة خنفشارية، وروائح غير مرغوبة ولا لائقة، لكنّها مع كل هذا تنهض، تنهض بيروت كل صباح، وتذهب للاحتفال، بالفوضى، بالموسيقى، تذهب للاحتفال بالكتاب. (روائية وسينمائية سورية مقيمة في لبنان)