تنحني للثمانين، تشعر بشوق إلى أول الذاكرة. تستيقظ صور وأنغام أشدّ زرقة من السماء. ترى أنّها كانت معك دائماً. تسمّي الأشياء وتسكب عليها من أوتار صوتها ما يجعلها تحيا، بلا نسيان، وبلا طاقة على الذبول. شيء ضدّ الموت يلمس الأشياء، فتستحيل خلوداً وأبداً. فيروز رعشة العالم. وكنا نرتجف طرباً أو فرحاً أو حزناً أو أملاً أو... وطناً بصيغة ليلى الغائبة. تنحني للثمانين وتتذكر شمعتها الأولى، وتسير خلفها. أعترف أنّني راهب في معبدها. كلّ أغنية لها تاريخها عندي. أسكن في زمنها. أداعب مخيلتي وأقول: هذه سمعتها في لحظة كآبة، ففرحت، وهذه سمعتها في لحظة فرح فحزنت، وهذه أتذكر أين كنت عندما سمعتها... أغانيها تعبر فينا ولا تعبّر عنا. تقيم دائماً في المكان السريّ، حيث الشرح غموض وإبهام، وحيث الصمت احتفاء بالصوت. كل شيء مع فيروز، يعيش معي بطريقة مختلفة. هي ليست القرية، بل الأسطورة. هي ليست المدينة، بل ناسها الذين هم ورق وريح. هي ليست الزمن، بل الوقت بتفاصيله وأنغامه وألحانه. هي السَّكب والكأس، وما عليك إلّا أنّ ترتشف وتسكر، وتطالب بالمزيد. ما انطفأت يوماً في حياتي. اقتنيت مجموعتها الفخمة، الصندوق الذي يحوي أغانيها مفتوح دائماً. ولا مرة أعدت ال «سي دي» ومن قبله «الديسك» إلى بيته. أتركه دائماً في متناول تذوّقي، لا أحبسه في صندوقته، إلا بعد خطر على ضياعه... هي الحاضرة في الصباح والمساء وما بينهما من تفاصيل يومية. أكثر الأحيان، أغمض عيني، كي أمتص صوتها وأنشره على شرفات روحي. أكثر المرات، يتعتعني صوتها، وأشدو صمتاً رخيماً يشبه حالة الانتشاء. ولكم غالبت نفسي كي أقنعها بالتصوّف. فالله، ليس هناك، بل هو ها هنا. وصوتها وحيٌ يحيي. تنحني للثمانين وتقول: يا شام أين أنتِ. أهُنا الترابات من طيب ومن طرب وأين في غير شام يَطربُ الحجرُ؟ وتقول: يا قدسُ، أليس الآن الآنَ... وسنرجعُ يوماً إلى حينا؟ وتقول، وتقول... ثم تنكفئ لترى أن كل ما غنّته فيروز صار خالداً في أغانيها، فيما هو قد مات أو اندثر في واقعه... إحدى معجزات فيروز والرحابنة، أنهم خلدوا ما زال بعدهم. لذا، هي شيء من بعلبك، «أنا شمعة على دراجك»، تلك التي «ربضت على صدر الزمان وأوثقت كلتا يديه، فحار كيف ينالها؟» لذا، هي كل لبنان، ولم يبقَ من «كله» سوى بقاياه المتعبة. لذا، هي دمشق، ولم يبقَ من ياسمينها غير ما اشتعل من حرائق. وهي القدس، ولم تعد لأهلها، والعائدون إليها غابوا وغيبوا. وما تبقى يثير الشفقة والأحزان. تنحني للثمانين، وتقول: «بعد بكِّير». وكما صنعت هي معجزة أيامنا، نلزمها أن نستعيدها، سنة سنة، منذ «عتاب»، حتى آخر لحن وصفاء غناء. لنا ملء الحرية بأن نؤبّدها عندنا. إنها تستحق هذا الخلود. نشر في: ثمانون فيروز... تقع النجوم ولا ينتهي الحبّ