سور الأزبكية حكاية لا تنتهي، وسر دفين يأبى أن يموت، تحت زحف الجديد على القديم ..بنايات تطل وأخرى تزول، ويبقى السور شاهداً على أفانين تقلبات الدهر، وعلى جنبات السور العتيق ومن بين ركام الزمن، يمتد حديث منه تطل العبر، إنه السور الذي يفيض بمكنون جواهره قديم جديد بين دفات الكتب لتروي تاريخا من عبق رواج القديم لكتب صفراء الورق، في رحاب السور تحس بمعنى الانتماء للمكان وأهله، لبساطة المظهر وعلو قيمة ما يقدمه للمتعطشين للمعرفة والاطلاع . صابر صادق صاحب إحدى المكتبات على السور، الذي تمتد خبرته لثلاثين عاماً، حيث ورث امتهان المهنة عن والده طفل خماسي السنوات، وورث معها لمحة التعرف على الزبون الراغب المشتري الذي لا يفاصل في سعر الشراء، حيث إن الحكمة تقتضي أن الكتاب لا يقيم بثمن، ويعرف أيضاً من جاء يسعى للتجوّل والإمتاع، حيث إن لسور الأزبكية جمهوره الخاص، كلٌ يبحث بين رفوف الكتب عن ضالته، بين شعاب الأدب والفن والفلسفة والتاريخ والمجهول، والكتب القديمة هنا مستودعها ومستقرها ومباعها، وهي في متناول يد الجميع لرخصها، أما المدرسون والطلاب فكلٌ يبحث بين الكتب ما يلائم تخصصه. وعن الطريقة التي يحصلون بها على الكتب قالصابر : نحصل عليها بأكثر من طريقة: إما عن بيوت العلماء الذين ماتوا، وأراد أبناؤهم التخلص من المكتبات وبيعها، فنذهب إليهم ونشتريها، والطريقة الثانية أن بعض الأشخاص يأتون إلينا في مكتباتنا ويبيعون لنا كتباً استغنوا عنها، والطريقة الأخرى هي الحصول على ما نريد عن طريق مرتجعات المكتبات. ويقول محمد أبو عقيل: "أعمل في السور منذ 23 سنة، أهم ما يميز جمهور سور الأزبكية أنهم من محدودي الدخل، إلا أنهم يحبون القراءة ويعشقون الاطلاع، وهم في الغالب من طلبة الجامعات الذين يأتون إلى السور، فيحصلون على الكتب بأسعار رمزية، خاصة الكتب العلمية ذات السعر المرتفع ككتب الطب، والهندسة، والكيمياء، والرياضيات". ويرى أن من بين مرتادي السور من المشاهير، مثل كامل زهيري، الذي ظل وفياً ومداوماً بالحضور حتى وافته المنية، ومنهم من بقي على المداومة والإطلالة، مثل جمال الغيطاني وحلمي النمنم، يأتون للبحث عن الكتب النادرة، وأحياناً نحجز لهم هذه الكتب بعد توصيتهم، حتى لا تُباع لأحد. ويضيف: إن سور الأزبكية يُعتبر معرضاً دائماً للكتاب، حيث إنه متواجد طول الوقت، وكنا قديماً نفترش الأرصفة، أما الآن فقد خصصت لنا أكشاك نبيع فيها كتبنا، وهذا أفضل. وتحكي منار عبد العال - موظفة - عن سور الأزبكية فتقول: أجد فيه الكثير من العناوين، وأهمها عندي وهي متراصة إلى جوار كتب الأدب والفن وغيرها، حيث ما أجده في المكتبات أجده هنا، كما أن الأسعار متاحة للجميع. ويقول نبيل المناوي: ما يميز سور الأزبكية عن غيره كتبه المتنوّعة، سواء للأطفال أو الكبار، وهو حافل، نشتري منه كل ما نفتقده، وما يهمني في الكتاب قيمته لا سعره. أما إسلام عوض - طالب ماجستير في النقد الأدبي - فيتحدث عن حبه لسور الأزبكية، ويؤكد أنه يأتي إلى السور، فيجد فيه كتباً قديمة يحبها غير متاحة في غيره من المكتبات الحديثة، حيث "أحب اقتناء الكتب القديمة غير المتوفرة حالياً. تاريخ المنطقة ويعود تاريخ الأزبكية إلى سبعة قرون، حيث اقترن اسمها الأمير عز الدين يزبك، قائد جيش السلطان قايتباي، الذي أسسها وجعلها حديقة للقاهرة، واحتفظ بداخلها ببركة الأزبكية التي بلغت مساحتها 60 فدان، وقد أمر الخديوي إسماعيل بردمها 1864م، حيث أقام على حوافها دار الأوبرا: للاحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل افتتاح قناة السويس، فيما أمر الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي "ديشان" مسئول بساتين باريس، بإنشاء حديقة مساحتها 20 فداناً، وزوّدها بحوالي 2500 مصباح غاز. وظلت حديقة الأزبكية ذات السور الحديدي قائمة، حتى تم هدم السور مع بداية ثورة يوليو 1952، وأتيح دخولها للجميع، وأبدل سور الحديدي بآخر حجري، وهي ما أقيم عليها عرض الكتب التي اشتهر باسمها. كان باعة الكتب قديماً يطوفون بالكتب، ثم بدأوا يفترشون كتبهم شيئًا فشيئًا في ميدان العتبة، أحد أهم ميادين وسط القاهرة بالقرب من دار الأوبرا، وبمحاذاة حديقة الأزبكية، وبدأ البائعون يعرضون كتبهم بجانب السور منذ عام 1926، إلى أن تم في عام 1957 تم منح هؤلاء الباعة تراخيص مؤقتة لبيع الكتب وفي بداية التسعينيات نقلت أكشاك السور "المحلات الصغيرة المؤقتة" إلى منطقة "الدراسة"، ثم عادت الكتب مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية عام 1998، بعد غياب خمس سنوات، وها هي تنقل مرة أخرى! وقد بدأ السوق بمجموعة من باعة الكتب القديمة، حيث كانوا يقومون بشرائها من أماكن مختلفة في "درب الجماميز"، وقد بدأوا عملية الشراء بالكتب الصغيرة، ويقومون ببيعها على مقاهي المثقفين "مقهى ريش، ومقهى الفيشاوي"، أما في ساعة القيلولة، وحين تغلق المقاهي أبوابها، فكان هؤلاء الباعة يلجأون إلى ميدان الأوبرا للاستراحة، في ظل الأشجار التي كانت تملأ الميدان آنذاك، أصبح شارع حمدي سيف النصر ؛الذي يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا الملكية مكاناً لعرض بضاعتهم من الكتب، ينجذب إليه المارة فيتوقف بعضهم لشرائها، ومع الوقت استقر الباعة في المكان، وعلى الرغم من غرابة البداية، فإن السور أخذ في التطوّر، وعلى الرغم من ملاحقة السلطات لهم، لقربهم من الأوبرا الملكية، لدرجة أنهم سلّطوا عليهم خراطيم مياه سيارات الإطفاء، فإن الباعة تمسكوا بمكانهم إلى أن وافق رئيس الوزراء "مصطفى النحاس" على بقاء السور، وتم الترخيص للباعة. واستمر الوضع هكذا إلى أن منحت ثورة 1952، أكشاك ومكتبات لهؤلاء الباعة، وعند إنشاء كوبري الأزهر؛ تم نقلهم إلى شارع 26 يوليو، وعند تشييد مترو الأنفاق، تم نقلهم مؤقتاً موقع قرب منطقة الأزهر، ومن ثم إعادتهم مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية.