مآل هذه القصة غير متوافر، لكن المتوافر لحسن الحظ، هو الملاحظات التي خطها ساراماغو على هامش عمله على هذه الرواية، وتتضمن أفكاره حول الطريقة التي كان ينوي فيها ختمها. ملاحظات تحضر في نهاية النص على شكل دفتر يوميات ويسر الكاتب فيها أيضاً بأشياء كثيرة ثمينة حوله، منها أنه لطالما أثارت فضوله حقيقة أن شركات الأسلحة، بخلاف الشركات الأخرى لا تعرف الإضراب، متسائلاً حول مدى مسؤوليتها في الحروب التي وقعت إلى حد اليوم. تساؤل يواجهه بطله ويجازف داخل عمله للإجابة عنه. التشكيك بالحرب في ملاحظة أخرى بتاريخ 26 ديسمبر (كانون الأول) 2009، نقرأ، "شهران من دون كتابة. بهذا المعدل، قد يجهز الكتاب في العام 2020...". ومع أن ساراماغو نشط إثر هذا الاستنتاج في الكتابة وخط سبعين صفحة من هذه الرواية، لكن وفاته ستة أشهر بعد هذا التاريخ في جزيرة لانزاروت الإسبانية التي كان يقيم فيها، حال مع الأسف دون إنجازه نصها، السياسي بامتياز، الذي أراد صاحب "العمى" و"البصيرة" فيه تمزيق فكرة فائدة الحرب أو ضرورتها، والتشكيك بحتمية العنف المفترضة عبر تعريته الوسائل التي نضعها في تصرفه وتغذيه إلى ما لا نهاية. بالتالي، لا يحتاج القارئ تتمة "مَطارد" للاستمتاع إلى أبعد حد بقراءتها، إذ يحضر ساراماغو كاملاً فيها، بأسلوبه الروائي الشيق والفريد، الذي يعيد فيه ابتكار وظائف علامات الترقيم ويطوّع علم النحو بعبقرية مدهشة، بسرده الأخاذ وطرافته الساحرة المعهودة، بالتزامه النبيل قضايا عصرنا ووضعه الإصبع على مكامن ضعفنا وخلل مجتمعاتنا، وبالتالي على أسباب عذاباتنا، وخصوصاً مهارته في ابتكار شخصيات مؤثرة وشديدة الواقعية، مثل أرتور باز سيميدو، الذي هو عبارة عن مزيج من "كانديد" ومعلمه "بانغلوس" (في حكاية فولتير الفلسفية)، أو عن دون كيخوته راهن نتعلق به لطرافة شخصيته وطبيعة علاقته بزوجته، ولتحقيقه بمثالية ساذجة في موضوع يتجاوزه، شخصية يحثنا عدم اكتمال قصتها إلى تحريك مخيلتنا لسد هذا النقص ومحاولة الإجابة عن الأسئلة التي تراودنا أثناء القراءة، وأبرزها، "إلى أي مدى سيُسمح لأرتور في الذهاب في تحقيقه؟ وفي أي لحظة سيصبح هذا التحقيق مجازفة؟ وهل سيكلفه فضوله حياته؟ وفعلاً، تفتح الصفحات السبعون المتوافرة من الرواية حقل الممكنات كفاية لإثارة مخيلتنا وحثنا على تخمين تتمتها بأنفسنا. مهمة غير صعبة، خصوصاً لمن قرأ روايات ساراماغو السابقة وتآلف مع مشروعه الروائي ومآل قصصه وعِبَرها، علماً أن هذا النص لا يشكل فقط فضاء إصداء لصوت صاحبه فحسب، إذ نصغي فيه أيضاً إلى أصداء متأتية من مراجع أدبية وفنية أخرى، كما أشار إلى ذلك أحد النقاد، مستحضراً أفلام الإثارة (thriller) السياسية التي أخرجها كوستا غافراس، أو روايات الإيطالي ليوناردو سياسيا البوليسية وكتاباته الأخرى. ولا عجب أو مصادفة إذاً في قرار ناشر هذه الرواية استتباعها بنص طويل وضعه الكاتب المحقق في نفوذ المافيات الإيطالية، الإيطالي روبرتو سافيانو، في مناسبة تواري صديقه ساراماغو. نص يمنحنا فيه تأملاً شخصياً ومقلقاً في موضوع "مَطارد"، مبيناً أن لشخصيتها الرئيسة أصناء حقيقيين، أشخاصاً وجدوا أنفسهم في وضعيات حرجة دفعتهم إلى سلوك بطولي، وغالباً ما تعرضوا من جراء ذلك لتهديدات بالقتل، وأحياناً تم اغتيالهم. يبقى أن نشير إلى أن ساراماغو في هذه الرواية، كما في جميع رواياته السابقة، لا يكتفي بإسقاط كلماته بمهارة لصوغ تأمل عميق في موضوعه، بالتالي منح قارئه رأيه فيه، بل يعمد، من خلال جمله الطويلة المحبوكة بفن يملك وحده أسراره، إلى إرشاد هذا القارئ داخل تعرجات فكره المنير من أجل تحذيره من المخاطر، التي تتهدد عالمنا وحثه على الحراك. مخاطر لم تفت صديقه الآخر، الكاتب والرسام الألماني غونتر غراس، الذي أنجز لإكمال نص ساراماغو الأخير سلسلة رسوم حول موضوعي الحرب والعنف، تتوزع داخل صفحات الكتاب. رسوم تعبيرية معتمة وكابوسية توسع حقل خيال سردية "مَطارد" وتعزز وقع خطابها.