وفي واشنطن نفسها، هناك من ينوي القول بحلول شهر يوليو المقبل، إن أوباما قد طبق ما أوصي به الخبراء، غير أن تلك التوصيات قد فشلت عملياً. والحقيقة أن الفاشل هنا ليس أوباما، وإنما سياسات الجنرال بترايوس، وكذلك سياسات إجماع الرأي في واشنطن لقد أصبح ممكناً التفكير في أنه قد حان الوقت لإعلان وقف تلك الحملة الأمريكية الواسعة التي هدفت إلي تشكيل واقع سياسي جديد في كل من الشرق الأوسط وآسيا الوسطي، وإلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بحركة "طالبان"، والقضاء علي التطرف الإسلامي، وإلقاء القبض علي بن لادن أو قتله، ثم بناء عالم رأسمالي جديد يشع بالديمقراطية وقيم الحرية في مجتمعات المنطقتين المذكورتين. وقرب الإعلان عن وقف هذه الحملة، ربما يأتي سريعاً ومفاجئاً علي نحو لم يكن المرء يتصوره مطلقاً. والحقيقة أن هذه الحملة قد فشلت عملياً، فهي تتراجع كل يوم بدلاً من أن تتقدم. وهذا ما يؤكده واقع العراق بما يسوده من فوضي سياسية وانقسامات طائفية وعرقية، علي رغم تحريره من شمولية النظام السابق من قبل الولاياتالمتحدة، بتكلفة باهظة جدّاً تجاوز فيها الضحايا من القتلي المدنيين مئة ألف قتيل، وتشريد نحو مليوني مواطن من العراق، جراء العنف والاضطرابات الأمنية التي زعزعت حياتهم. وحسب ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" فربما تطالب القوي المعارضة لحكومة المالكي، بانسحاب كامل للقوات الأمريكية، لوضع حد لما يوصف بالانتشار الدائم للقوات الأمريكية هناك. وفي منتصف شهر ديسمبر الجاري أعلنت إدارة أوباما عن نتائج مراجعتها لسياسات أفغانستان، وهي المراجعة التي أجريت بهدف تشذيب وضبط استراتيجية واسعة للفوز بالحرب. ولكن لم يجرِ واضعو التقرير أية تغييرات جوهرية علي البرنامج الأمريكي المتمثل في استراتيجية الحرب، بينما أشاروا إلي أن الحرب الدائرة علي مقاتلي "طالبان" تحقق نجاحاً نسبياً في بعض الجوانب، وتسير علي نحو أسوأ في جوانب أخري. كما ذكر تقرير المراجعة أن العلاقات مع باكستان تسير نحو الأسوأ. وفي الوقت نفسه تقريباً، صدر تقرير "التقويم الاستخباري القومي" وجاء فيه أن الوكالات الاستخبارية القومية جميعها تتفق علي خسارة أمريكا لحربها في أفغانستان. ومن جانبها أكدت واشنطن عزمها علي سحب قواتها من هناك، اعتباراً من شهر يوليو المقبل، ما يشير إلي نيتها "فتنمة" الحرب، أي أن تترك للأفغان تولي شئونهم الأمنية بأنفسهم، مثلما فعلت سابقاً في فيتنام. وعلي أية حال، فإن هذا مطلب كانت قد طالبت به سلفاً نسبة تزيد علي 50 في المئة من المواطنين الأمريكيين. وحسب نتائج استطلاع رأي عام أجرته صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً، فإن نسبة 60 من الأمريكيين علي الأقل تري ألا طائل من الحرب، وأنها لا تستحق الاستمرار فيها. وهناك من يشير إلي أن واشنطن ستلقي بمسئولية عودة حركة "طالبان" إلي السلطة مجدداً في كابول -عقب انسحاب القوات الأمريكية علي حكومة كرزاي، نظراً لعدم كفاءتها وانتشار ممارسات الفساد بين بعض أعضائها. وفي واشنطن نفسها، هناك من ينوي القول بحلول شهر يوليو المقبل، إن أوباما قد طبق ما أوصي به الخبراء، غير أن تلك التوصيات قد فشلت عملياً. والحقيقة أن الفاشل هنا ليس أوباما، وإنما سياسات الجنرال بترايوس، وكذلك سياسات إجماع الرأي في واشنطن. ولو كان لأوباما ما يكفي من الإرادة السياسية، لغسل يديه تماماً من الحربين اللتين استمرتا في ولايته، وبذلك يكون قد حل مشكلة عجز الموازنة الفيدرالية بضربة واحدة، وكسب عقول وقلوب الأمريكيين في حملة انتخابية رئاسية ثانية. ولكن لم يعد مرجحاً الوصول الآن إلي نهايات سعيدة كهذه. ف"البنتاجون" وصناع السياسات الخارجية في واشنطن يصرون علي مواصلة أمريكا لجهودها الحربية بهدف السيطرة الدائمة علي المنطقة بأسرها. ولا تزال تسود في واشنطن ذات الذهنية المنادية ببناء الديمقراطية "وبناء الأمم" -وهي الذهنية التي انطلقت في عهد الرئيس "الديمقراطي" الأسبق كلينتون، ثم تواصلت عقب هجمات 11 سبتمبر في عهد بوش. ويسري تأثير هذه الذهنية حتي في أوساط أكثر واضعي سياسات واشنطن الخارجية واقعيةً. ومما يذكر في هذا المقام أن "جون ميرشايمر" -الأستاذ بجامعة شيكاغو- قد كتب مقالاً تحليلياً رئيسياً نشر في العدد الأخير من مجلة "ذي ناشونال إنترست". وفيه قدم نقداً ممتازاً للكيفية التي أقحمت بها أمريكا نفسها في هذا المأزق الآسيوي الخطير. ويمضي قائلاً: "إنه لا سبيل لواشنطن سوي مواصلة هيمنتها المستمرة علي آسيا، منعاً لحلول أي منافس آخر لها في محلها". والمقصود بهذا المنافس الدولي هو الصين. ويستطرد الكاتب مؤكداً أنه: "ليس ثمة قائد أمريكي واحد يقبل بتحويل الصين لجهودها الاقتصادية إلي جهود عسكرية بهدف فرض هيمنتها علي منطقة شمال شرقي آسيا"، ليستنتج أن علي واشنطن تبني سياسات تسمح بوجود قواتها العسكرية بعيدة عن أفق شرقي آسيا، ولكن بشرط أن تكون القوات علي أتم الاستعداد للتدخل في أي وقت ضد الصين. وفي رأيي الشخصي أن في هذا القول تهويلاً كبيراً للطموحات الصينية. كما أن فيه تبسيطاً شديداً لما يعتقد بقدرة الصين علي تحويل قوتها الاقتصادية إلي قوة عسكرية بين عشية وضحاها، مع العلم أن الاقتصاد الصيني لا يزال تابعاً للاقتصادين الأمريكي والأوروبي، وأن الصين لا تزال تعتمد علي التكنولوجيا الخارجية. ففي ظل شروط كهذه، كيف لنا أن نتصور قدرة الصين علي تحويل قوتها الاقتصادية إلي عملاق عسكري، سرعان ما يبسط هيمنته علي القارة الآسيوية، ويناطح الجبروت العسكري الأمريكي؟ فليس ثمة "واقعية" في سياسات واشنطن الخارجية، ولا في تهويل الدور الصيني.