لعل من أهم تلك القضايا التي يجب مناقشتها علي سبيل المثال تحت قبة البرلمان إنشاء نقابة للفلاحين وأخري للصيادين وثالثة للباعة الجائلين حفاظاً علي حقوقهم ! يخطيء كثير من الكتاب والصحفيين في كتابة مقولة "الغائب الحاضر".. حيث يكتبونها "الحاضر الغائب".. والفرق كبير جدا بين المعنيين.. فالغائب الحاضر.. هو الشخص أو الشيء الذي رغم غيابه إلا انه موجود ومؤثر ومحسوس.. وهذا اسلوب للمدح والاشادة.. اما الحاضر الغائب فاسلوب ذم وتجريح ويعني ان الانسان أو الشيء الذي نصفه بهذه الصفة رغم وجوده الا ان هذا الوجود غير محسوس أو مؤثر.. وبعيدا عن هذه الفروق بين المعنيين.. تري أي الاشياء أو الأشخاص الذين ينطبق عليهم المعني الأول "الغائب الحاضر" .. وأي الأشياء أو الاشخاص الذين ينطبق عليهم المعني الثاني "الحاضر الغائب". فاذا ما تحدثنا عن النموذج الاول "الغائب الحاضر" لوجدنا الزعيم جمال عبدالناصر النموذج الامثل الذي تنطبق عليه هذه العبارة.. فرغم مرور اربعين عاما علي رحيله.. ورغم ان هذه السنوات الاربعين قد شهدت خططا منهجية ودؤوبة لاغتيال سمعة هذا الزعيم العظيم.. الا ان كل هذا لم ينل منه بل زاده وجودا ورسوخا في وجدان من عاصروه.. والمفاجأة انه اكثر وجودا ورسوخا في وجدان الاجيال التي جاءت بعد رحيله.. فكل المظاهرات القومية والوطنية والفئوية نجد اهم مفرداتها صور الزعيم جمال عبدالناصر.. فهل يرجع ذلك الي الاعجاب والانبهار بكاريزما الزعيم.. ام افتقاد ذلك "المشروع" التنموي الشامل الذي كان عبدالناصر رمزا له.. والحقيقة ان العاملين معا يكرسان ذلك الحنين الجارف للمشروع الوطني العملاق الذي جسده عبدالناصر.. ذلك المشروع الذي اكد علي الكرامة الوطنية لكل افراد الشعب.. ورفع راية العدالة الاجتماعية فضاقت الفوارق ما بين الطبقات.. وتماسكت الطبقة المتوسطة ونمت لتقود الحركة التنموية للمجتمع كله.. تلك الحركة التنموية التي انطلقت بقوة دفع العديد من المشروعات القومية مثل بناء السد العالي وتأميم قناة السويس والنهضة التصنيعية الكبيرة.. والأهم النهضة التعليمية الثقافية.. التي تحولت الي قاطرة حقيقية تسحب كل عربات الوطن بكل القوة والتصميم.. وبعيدا عن هذه النجاحات الداخلية الكبيرة والواضحة.. استطاع مشروع عبدالناصر ان يجعل من مصر قوة اقليمية كبري.. ورقما صعبا علي خريطة السياسة العالمية.. وذلك من خلال التحرك علي ثلاثة محاور هي القومية العربية ومساندة حركات التحرر في كل العالم وخاصة في افريقيا.. واخيرا السعي بكل الجد الي انشاء منظمة عدم الانحياز.. وقد بلور عبدالناصر المحاور في ثلاث دوائر تتحرك من خلالها السياسة المصرية وهي الدائرة العربية - الدائرة الافريقية - الدائرة الاسلامية .. وقد نجحت مصر في الدوائر الثلاث.. مما جعل القوي الاستعمارية تعيش حالة من الهياج والعصبية والتصميم علي ضرب التجربة المصرية حتي لا يتم استنساخها أو تعميمها.. فكانت المحاولة الاولي في مؤامرة العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 وخرجت مصر من هذا العدوان اكثر قوة وصلابة.. مما جعل المحاولة الثانية اكثر غدرا وتدميرا وذلك من خلال نكسة 1967 ولكن التماسك المصري كان سريعا ومبهرا حيث بدأت حرب الاستنزاف بعد 25 يوما فقط من الهزيمة.. واستمرت هذه الحرب لمدة الف يوم وكان من الطبيعي ان تؤدي بطولات الاستنزاف الي انتصار اكتوبر وكل ذلك عاش وسيعيش مشروع جمال عبدالناصر.. ورغم ان هذا المشروع قد شابته بعض الاخطاء الا انه عاش وسيعيش لانه اعتمد علي الاخلاص والتجرد والوطنية مما سيجعل صورة عبدالناصر محفورة في القلوب قبل ان ترفع في المظاهرات او تعلق علي الحوائط. واذا كان عبدالناصر هو النموذج الابهي لمقولة "الغائب الحاضر" فلدينا الكثير من الاشخاص والمعاني الذين تنطبق عليهم مقولة "الحاضر الغائب" ومنها مقولة "الوحدة الوطنية" فطوال الوقت لدينا لقاءات وموائد وصفحات تتحدث عما يسمي "الوحدة الوطنية" وكأن هذا "الكلام الكثير" يتم عن عمد ليداري علي بعض "البثور" التي تشفي وتزول بالكشف وليس بالحجب والغريب ان ما يسمي الوحدة الوطنية او الفتنة الطائفية لم يكن موجودا أيام عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات.. أولا لان الدولة كانت قوية بالقدر الذي يفرض احترامها علي الجميع.. ويجعل الجميع علي ثقة بانها "الحكم العدل" الذي يؤكد علي ان دور العبادة لممارسة الدين وليس السياسة.. وثانيا لان كلمة مصري كانت الراية الاعلي لكل انسان في هذا الوطن مما جعل من كل الشعب نسيجا واحدا.. ولذلك لم يكن هناك أي داع للموائد واللقاءات والصفحات التي تتحدث عن "الوحدة الوطنية".. فالقانون يطبق علي كل المصريين.. ومن يخطيء يلقي جزاءه مهما كانت انتماءاته أو ديانته.. ولكننا نعيش منذ سنوات في حالة غريبة من "الترهل" الذي ادي الي اختلاط الامور.. وتقديم بعض "الاعتبارات" علي القانون.. ولعل ما حدث مؤخرا في ازمة "كنيسة العمرانية" يقدم دليلا قاطعا علي عدم احترام القانون وهشاشة ما يسمونه الوحدة الوطنية.. وذلك لتراجع دور الدولة.. فمن حق كل صاحب ديانة ان يجد دور العبادة التي يمارس فيها طقوس دينه.. ولكن ليس من حق اياً من كان ان يحول "بيت ضيافة" الي مسجد أو كنيسة.. ومن يفعل ذلك لابد وان يقع تحت طائلة القانون ففي قرانا من يبني من دون تصريح واضح يجد شرطة تنفيذ الاحكام تأتي وتهدم ما بناه مهما كانت التكاليف التي انفقها.. ولا يتوقف الامر عند هذا الحد لان القضاء يأخذ مجراه وقد يتعرض صاحب البناء الي الحبس او الغرامة.. والمهم هو كيف نحول تلك "الوحدة الوطنية" من "الحاضر الغائب" الي الغائب الحاضر.. والاجابة بسيطة وتتلخص في ضرورة عودة قوة الدولة.. وتفعيل القانون ليكون سيفا علي رقاب كل المخطئين والاهم هو وضع خطوط فاصلة وواضحة بين ما هو "عبادة" وما هو "سياسة".