ولم ينج "مترو الأنفاق من ظاهرة الدعاة الجدد"، فرغم عدم وجود كاسيت أو تليفزيون بداخله، بدأنا نري بعض الركاب يصعدون ويقف واحد منهم في وسط عربة المترو ويعلو صوته بقراءة القرآن الكريم، وهو أمر ينافي الشريعة الإسلامية هناك فجوة كبيرة يعاني منها المواطن المصري في ظل تشوش الوعي الشعبي، الذي ينحاز بفعل سياسات الإفقار والبطالة والإعلام الخاطئ إلي ثقافة الخرافة التي تقوم في الأساس علي منطق تغييب العقل، بل إلغائه في معظم الأحيان ، ودائما ما تجد تلك الثقافة الهدامة سدنة وشياطين يشعلون نارها، وتأتي النتيجة في النهاية دماء بريئة تسفك، وترويعا لآمنين لا ذنب لهم إلا أنهم يعيشون في هذا الوطن. وقد كشفت الحوادث المتكررة عن خطورة هذه الثقافة التي يتزود بها ملايين الشباب في مصر، والقائمة علي ما يمكن أن يسمي ب "التدين الشكلي" والقائم علي أفكار مغلوطة لا تنتمي لصحيح الدين الإسلامي، وتستقي هذه الثقافة مصادرها من كتب الرصيف المنتشرة في الميادين العامة بالقاهرة والمحافظات، بلا ترخيص أو رقابة تذكر، علي الرغم من خطورة المادة المطروحة بداخلها، والقائمة علي أفكار جماعات "التكفير والهجرة". ونظرا لرخص أسعارها التي لا تتجاوز في كثير من الأحيان جنيها واحدا، فإن الآلاف من الشباب يقبلون عليها وهم لا يدركون أن السم موضوع في العسل. وتجد هذه البضاعة المضروبة رخيصة السعر وشديدة الأثر أرضا خصبة لها بين فئات الشباب بداية من مرحلة المراهقة حتي سن الخامسة والثلاثين، وهنا منبع الخطر، فتلك الفئات هي المنوط بها الفعل المستقبلي وتشكيل رؤية جديدة للواقع. وربما أري أن الأمر لا يخلو من توجه سياسي يحول الأمر في النهاية إلي ما يشبه "الكوميديا السوداء"، ويؤكد هذا، أننا لو نظرنا إلي بداية السبعينيات حيث تحولت الدولة من النظام الاشتراكي إلي النظام الرأسمالي المنفتح، ورواج مصطلح "الاستهلاك" في جميع ميادين الحياة مما أوجد طبقة جديدة تستأثر بالثروة، ومقوماتها الوحيدة الذكاء المفرط في الصعود علي رقاب الآخرين، بمنطق "أن كل شيء صالح للبيع والشراء"، بالإضافة إلي ذلك نفي كثير من مثقفي الأمة خارج مصر نظرا لمواقفهم المضادة لسياسة صعود الفرد علي حساب المجموع. كل ذلك من وجهة نظري كان بمثابة عامل ضغط شديد علي الشارع والمواطن العادي، فظهرت كرد فعل عكسي ثقافة يمكن تسميتها "الثقافة المضادة" التي أفرخت مجموعة من "دعاة الشوارع" الذين تنتشر كتبهم علي الأرصفة، وتعلو أصواتهم في تسجيلات السرفيس و"الميكروباصات" علي امتداد الخريطة المصرية لتواكب الحالة العبثية التي يعيشها المجتمع المصري علي جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فنري كثيرا من مشايخ الكاسيت يلوون عنق النص الديني من أجل إصدار فتاوي مغلوطة عن بعض القضايا المتعلقة بالحجاب وعذاب القبر وتكفير تارك الصلاة ويأجوج ومأجوج والثعبان الأقرع. وعادة ما يتسم خطابهم بلهجة متباكية لجذب المستمعين من ناحية، ومن ناحية أخري يأخذ البعض مبدأ التحريض من خلال عملية شحن للمستمع يتخللها كم هائل من الأحاديث غير الصحيحة والإسرائيليات. ولا يسلم الأمر من وجود شرائط تدعو للفتنة الطائفية، ومنها شريط راج خلال السنوات الماضية. كذلك نري شرائط العلاج من المس الشيطاني ومواصفات الزي الإسلامي وضرورة النقاب، التي تجد سوقا رائجة لها في أتوبيسات السوبرجيت المتنقلة بين المحافظات التي تمثل نوعا من ازدواجية الرؤية حيث يختلط الحابل بالنابل علي رأي المثل الشعبي ، فنجد شرائط بأشكال متنوعة، وتكمن الخطورة في أنه لا يوجد قانون يحد من استخدام شرائط الكاسيت في المواصلات العامة، رغم العواقب الوخيمة التي تترتب علي سماعها. وقد شاهدنا في السنوات الماضية كيف أن شابا لم يقرأ شيئا من كتب نجيب محفوظ وجه طعنة نافذة إلي رقبته، لولا أن الله سلم، ومن قبله راح د. فرج فودة قتيلا نتيجة الفهم الخاطئ لأفكاره من قبل الجماعات الإرهابية التي وضعت عشرات القوائم بها مئات الأسماء من المثقفين التنويريين مستهدفين لقتلهم. وكل ذلك يتأتي من فساد البنية التحتية لثقافة الشارع وغياب الجانب التربوي الصحيح في المدارس المدنية والدينية علي السواء القائمة علي النظام التراكمي في التعليم، والحفظ والتلقين والترهيب، دون أدني مراعاة للبعد العقلي للطالب والفروق الفردية ودراسة سيكولوجية التلقي. ولم ينج "مترو الأنفاق من ظاهرة الدعاة الجدد"، فرغم عدم وجود كاسيت أو تليفزيون بداخله، بدأنا نري بعض الركاب يصعدون ويقف واحد منهم في وسط عربة المترو ويعلو صوته بقراءة القرآن الكريم، وهو أمر ينافي الشريعة الإسلامية التي جعلت من قراءة القرآن حرمة يجب الحفاظ عليها قال تعالي: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون"، فهو بحاجة إلي إنصات كامل لا يتوافر في عربة المترو المزدحمة بالرجال والنساء والأطفال وغير المسلمين أيضا، والأمر الأدهي أن يصعد واحد منهم ليقف ويعلو صوته بخطبة منبرية تبدأ بأفعال النهي من مثل "من لم يصل فهو كافر" و"احذر عذاب القبر" وغيرها، رغم أن الحديث النبوي الشريف يقول: "بشروا ولا تنفروا"، والحكمة العربية ترشدنا إلي أن "لكل مقام مقال". وبالإضافة إلي ذلك فقد طفت علي السطح في الفترة الأخيرة ظاهرة أخري مشابهة وهي الدعوة بالملصقات، وربما أشهرها ملصق "الإسلام هو الحل" الذي تروج له جماعة الإخوان المسلمين خاصة في فترة الانتخابات، وشعار "نعم للحجاب" وملصق آخر فحواه "تحريم التدخين ومذيل بإمضاء مفتي مصر الأسبق د. نصر فريد واصل" حتي يتخذ هذا الملصق شرعية في الشارع. وهكذا نري وعي الشارع المصري بات موجوعا ومشوشا ويسير في طريق مسدود، وكأن قرنين من النهضة الفكرية لم يمرا علي هذا البلد!!