ليس الفخر أن نتشدق بالكلمات عن أجدادنا، ولكن الأهم أن نتعلم منهم. لقد استطاعوا أن يصنعوا هذه المعجزة بالتضامن والمحبة، فلم يكن الهرم مجرد قبر لحاكم، ولكنه تعبير عن وحدة أبناء النيل في هدف واحد. اهتزت كل مشاعري وأنا أري عملاقا في قامة الأستاذ سيد ياسين يقدم إسهامات د. محمد السيد سعيد في ذكري رحيله بكل التقدير والموضوعية، وبلغ به التأثر حدا جعله يتوقف عن الكلام. وتحولت كلمات الأستاذ وعبراته التي جاهد في التحكم فيها إلي سميفونية رائعة تضرب أنغامها خارج حدود القاعة التي اجتمعنا فيها، وتتواصل مع تاريخ مصر الحضاري، وقامتها الشامخة، وثرائها الإنساني. إنها سيمفونية بدأت من عمق التاريخ، وتتواصل مع سريان النهر في أرض مصر مؤكدا أن مصر لن تموت، وأن النهر البشري المصري سيستمر متدفقا بالعطاء دون توقف. لم تكن مصر هبة النيل، بل كانت هبة أبنائها الذي استأنسوا النهر، وأقاموا علي ضفاف هذا النهر حضارة هي بداية لعطاء متواصل للإنسانية. حضارة مصر ليست حكرا علي أبنائها، ولكنها ملك للعالم أجمع، اجتمعت فيها الأخلاق والعلم والإيمان، الفن والعمارة والإبداع بكل أنواعه. كان الأجداد يرسون قواعد للنمو والتقدم، ولم يتصوروا أنها سنغني ونشدو بما قاموا به، دون أن نضيف إليه، ونطوره، ونخرج للعالم بعطاء متواصل وحضارة متجددة. ولكن عندما يظهر الرواد والمفكرون في كل المجالات علي مر العصور، فإنهم يأخذون المسيرة إلي الأمام، ويستمرون في التغلب علي الأحراش الفكرية التي تمنع تدفق النهر الإنساني إلي مساره ليروي أرض القلوب والعقول، ويعود بمصر إلي مكانتها الحضارية التي تستحقها. وفي ذكري محمد السيد سعيد، المفكر المصري الجريء رغم ما كان يرتسم علي قسماته من هدوء، والثائر رغم كلماته الموزونة المتأنية، اجتمع لفيف من المفكرين، متجهين لا إلا التطنيب والإثناء علي هذا المبدع، ولكن من أجل إحياء فكره بمناقشة ما قدم والانتفاع به والإضافة إليه في هذا المكان في جريدة نهضة مصر منذ عام، وبعد أن فجعني خبر رحيل د. محمد السيد سعيد، قلت لنفسي ولقرائي إن الشهداء لا يموتون، ذلك أن هذا الرجل كان شاهدا علي عصره، ومتخذا من القلم الحر سلاحه المغوار يدافع به عن حق التعبير، حتي لو كان من يدافع عنهم مختلفون معه في الرأي والرؤية، يدافع عن حق الحياة، منبها الحقوقيين والتنفيذيين أن من يترك الفقر ينهش في جسم الأمة، ولا يهتم بهموم البائسين المطحونين، فإنه يخترق حقا أساسيا من حقوق الإنسان. ذلك أن حقوق الإنسان عنده لم تكن مجرد شعار يرفعه، ولكنها كانت برنامجا متكاملا يدعو إليه. لم يكن هذا الرجل ينظر إلي مكسب سريع، أو إبراز لشخصه ولذاته، ولكنه دفع ثمنا باهظا لجرأته وإعلانه عما يؤمن به، فدخل السجن ولاقي من التعذيب ما لاقي. وقدم الأستاذ الموسوعي الذي لا يحتاج مني إلي تعريف أوإشادة، فهو أستاذ الأساتذة، وصاحب الرؤية الواسعة والنظرة الثاقبة لما يدور هنا وهناك، محليا، وإقليميا ودوليا، ويضرب مثلا مستمرا في تواضع العلماء والانفتاح علي المعرفة بلا حدود، إنه الأستاذ سيد ياسين. إن تلك العلاقة الإنسانية بين جيلين، والتي نمت وترعرعت من خلال حب مصر، والبحث الرصين المنهجي عن الإستفادة والإفادة من العلوم الإنسانية بشمولها واتساعها ورحابتها، تعدت العلاقة الشخصية بين فردين، وأصبحت مثالا للتجمع الإنساني الذي يتوثق من خلال وحدة الهدف وصدق النية، وعلمية المنهج. ويكفيني في هذه العجالة أن أنقل خطاب د. محمد السيد سعيد إلي المصريين في الكتاب الذي قام بتحريره تحت عنوان حكمة المصريين ، إصدار مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. فهو يقول: " لقد آن الأوان لوقف عذابات هذا البلد وإنهاء بؤسه وضعفه، آن الأوان لأن نمنح هذا البلد مناعة حقيقية ضد غوائل الزمن وافتراء الطغاة من الداخل والخارج. آن الأوان لأن نقطع دابر اليأس ونعيد الأمل ببريقه وروعته إلي مصر والمصريين. آن الأوان لأن نستعيد لمصر سعادتها ومجدها وسؤددها وأن نصنع مستقبلا يليق بالبلد الذي ولدت فيه الحضاة وابتدأ فيه التاريخ" إنها صرخة أطلقها إلي جيل الشباب الذي عليه مسئولية الأخذ بزمام الأمور، والسير قدما بخطي واثقة، مزحزحا كل ما يشدنا إلي تقديس الماضي، والرجوع إلي الوراء. وتأكيدا لهذا الإتجاه فإنني أقول لطلابي دائما أن اعتزازنا بالأهرامات يستلزم منا أن نتلقي الرسالة التي أراد أجدادنا أن يرسلوها إلينا عندما أقاموا هذا الصرح الذي تحدي الزمن، ومازال لغزا نبحث عن سر بنائه. وينظر إلي الطلاب وهم في حيرة من أمرهم، وهل يتكلم الجماد؟ أقول لهم ليس الفخر أن نتشدق بالكلمات عن أجدادنا، ولكن الأهم أن نتعلم منهم. لقد استطاعوا أن يصنعوا هذه المعجزة بالتضامن والمحبة، فلم يكن الهرم مجرد قبر لحاكم، ولكنه تعبير عن وحدة أبناء النيل في هدف واحد. ولهذا فإننا إذا توحدنا علي هدف نهضة مصر، حتي لو اختلفنا في الرؤي، فإننا يمكن أن نصنع المعجزات. والهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم ليس هرما من حجارة نضعها جنبا إلي جنب، ولكنه تجمع للمصريين ليواجهوا التحديات الداخلية والخارجية، ولا ينتظرون تغير القيادات حتي يتغير المجتمع، بل إن التغير يجب أن يبدأ دائما من القاعدة، لا تثويرا لها كما يدعو البعض في اتجاه العنف، أوالعصيان المدني، ولكن من خلال إيقاظ الوعي الذي يجعل كل فرد منا مسئول عن الكل، وأجد أن المفكر الألماني إيمانويل كانط كان محقا عندما قال "تصرف كما لو أنك تشرع للعالم أجمع"، وهي نفس الفلسفة التي قامت عليها حضارة مصر "الإصلاح الأخلاقي بإحياء الضمير"، ذلك أن الفساد ينتشر ويتفشي لأنه أصبح القانون الحاكم، وليس الاستثناء الانحرافي، بدءا من الإهمال في القيام بالمسئوليات المهنية، وانتهاء إلي بيع أرض مصر بأبخس الأسعار، والتهاون في ثرواتها، وعدم التفكير في مستقبلها. إن المسئولية الملقاة علي عاتق كل المصريين في هذه اللحظات الحاسمة، هو أن يكونوا علي قدر من الشجاعة في مواجهة كل أنواع الفساد حولهم، بدءا بمراقبة أنفسهم، والتعالي عن رؤية مصالحهم الشخصية في اختياراتهم لمن يمثلهم. ذلك أن أي قيادة سياسية هي إفراز للفكر العام في المجتمع. مجرد الرفض للواقع، هو إحدي آليات تغييره. إن الهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم لن يتم بناؤه إلا إذا تخلصنا من رواسب التفكير في القدرة علي "امتلاك الحقيقة" وفرضها علي الآخرين، فهذا حقا هو الحجر العثرة التي تقف أمامنا متمثلة في أيديولوجيات متعددة، كلها يستبعد الآخر ويتخذه عدوا، ويحب أن نزيح هذا الحجر بالفكر النقدي، وإتاحة الفرصة لكل الأصوات والرؤي إلي التفاعل، ولنترك تلك الثنائيات التي تفرق ولا تجمع، والتي تضع دائما الحقيقة في لونين "ابيض وأسود"، متجاهلة كل ألوان الطيف ومشتقاتها. حقا مازال المنهج الديالكتيكي لهيجل له فاعليته في التقدم الإنساني علي أرض الواقع عندما يتاح للإنسان الحر أن يعبر عن رأيه، وأن يخرج من تقوقعه داخل مصالحه الخاصة، وتجمده الفكري، ويقبل أن يكون ناقدا لما يظن أنه الحقيقة، ليصل إلي رؤية أكثر نضجا ونماء، باستكمال الرؤية من خلال النقد والفكر الآخر. إنها روح الإبداع التي يبشر بها محمد السيد سعيد، منتظرا أن تزدهر في الأجيال الشابة، المتطلعة إلي اختراق الصعب، واكتشاف الطريق. لقد كان محمد السيد سعيد تجسيدا لهذه الروح التي لم تتوقف عن محاولة البحث عن السبل المتعددة في كل الأفكار، حتي احتار في تصنيفه المحللون، لأنهم تعودوا أن يقسموا الاتجاهات بخطوط واضحة فاصلة، ولم تكن شخصيته لتقبل التقولب أو التقوقع. هذه الروح لم تمت برحيل أحد أبناء النيل من المصريين، ولكنها ستظل متجددة ومستمرة، وأقولها بملء الصوت "مصر ما زالت بخير"، ومستقبل مصر في أيدينا، في أيدي هذا الشعب، وليست في أيدي الحكام. فعلي الرغم من تلك النغمات البائسة اليائسة، والسطور السوداء المتشائمة، فإن ضوء الأمل وإشراق المستقبل يتسلل ببطء وهدوء إلي أرواحنا المعذبة، عندما نري شخصية مصرية أصيلة ومبدعة تتجدد وتحيا وتبعث في أبناء مصر. وليس هذا تجاهلا للواقع بكل ما يزخر به من مشاكل وعقبات، ولكنه مواجهة لهذا الواقع بالعمل وليس بالكلمات. . يرحل فارس ولكن رحيله يفجر بركان العطاء في القلوب والعقول. تتحول الكلمات إلي طاقة ملهمة، وإلي عمل رصين يتجه نحو هدف واضح الملامح، كلنا يريد نهضة مصر.