جاءت الانتخابات التشريعية التي شهدها العراق أمس للمرة الثانية منذ الإطاحة بنظام صدام حسين نسخة بالكربون من سابقتها التي أجريت عام 2005 باستثناء وحيد هو مشاركة السنة بفاعلية هذه المرة لتعويض التهميش الذي تعرضوا لهم عقابا لهم علي مقاطعة الدورة الأولي مع الأخذ في الاعتبار المعوقات التي وضعها الشيعة والأكراد وعلي رأسها استبعاد نحو 500 مرشح بزعم انتمائهم لحزب البعث المنحل. وإذا كان هناك ما يشبه الاجماع علي أن نتيجة اقتراح أمس حاسمة في رسم ملامح العراق الجديد فالأمر المؤكد أن هناك الكثير الذي يتعين عمله قبل أن يعود الاستقرار إلي بلاد الرافدين خاصة وأن الأمن لا يزال هشا وخادعا ولا يبعث علي الاطمئنان لقادة العراق الجديد أو للرئيس باراك أوباما الذي يسعي لفك ارتباطه مع بغداد بعدما خفض عدد قواته من 124 ألف جندي في سبتمبر الماضي إلي نحو 90 ألفا الآن يفترض أن يبقي منهم 50 ألفا فقط نهاية أغسطس المقبل تمهيدا لسحب اخر جندي مع نهاية 2011. انتخابات الأمس التي شارك في تأمينها قرابة مليون جندي وشرطي عراقي ناهيك عن الوجود العسكري الأمريكي اجريت علي وقع التفجيرات والهجمات الصاروخية التي أودت بحياة 24 عراقيا واصابت العشرات مما جعلها كسابقتها بلون الدم ولم تفلح الاجراءات الأمنية المشددة التي وضعتها حكومة نوري المالكي في "لجم" تهديدات الجماعات المسلحة وتنظيم القاعدة عن تنفيذ مخططها في ترويع الناخبين الذين طال انتظارهم لاستعادة الحياة الطبيعية بعيدًا عن مشاهد الدمار والهجمات الانتحارية والصاروخية التي طالت كل وأي شئ في بلاد الرافدين منذ نكبت بالغزو الأمريكي في 19 مارس 2003. لقد تحولت بغداد أمس إلي ساحة للرماية بمختلف أنواع القذائف والمتفجرات والعبوات الناسفة بما في ذلك المنطقة الخضراء شديدة التحصين والتي تضم الوزارات العراقية ومبني السفارة الأمريكية. وأفادت احصائية بسقوط أكثر من خمسين قذيفة هاون في بغداد وضواحيها ناهيك عن الانفجارات وهو ما ينسف التصريحات الوردية التي خرجت عشية الانتخابات علي لسان المتحدث بأسم عمليات بغداد التي وصف فيها تهديدات تنظيم القاعدة بقتل كل من يشارك في الانتخابات بأنها "أضغاث أحلام". واللافت أن غالبية المناطق التي تم استهدافها بالقصف يقطنها العرب السنة بما يعني أن منفذي هذه الهجمات علي الأرجح من الشيعة خشية الحضور الكثيف للناخبين السنة وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد التوازن إلي المكونات الرئيسية للشعب العراقي. وأغلب الظن أن حملة الهجمات الصاروخية حققت أهدافها وحرمت الكثيرين من ممارسة حقهم في التصويت حيث افادت التقارير بأن معدلات الاقبال علي مراكز الاقتراع كانت محدودة للغاية. لقد كان العراق أمس وبحق عراقين.. عراق المالكي وأعوانه من المشاركين في العملية السياسية كخطوة علي طريق إنهاء الاحتلال واسترجاع السيادة وعراق الجماعات المسلحة وتنظيم القاعدة التي فرضت حظر التجول في جميع أنحاء البلاد لمنع اجراء الانتخابات فأي العراقيين انتصر. المؤسف أن ايا من الفريقين لم ينجح في فرض مشيئته علي الطرف الآخر فلا فريق المالكي اثبت قدرته علي استعادة الأمن وتوفير الحماية للناخبين برغم إغلاق الحدود مع دول الجوار وحظر سير الدراجات البخارية والمركبات في الشوارع ونشر ما يقرب من مليون جندي وفي المقابل فشلت الجماعات المسلحة في إفشال العملية الانتخابية بالكامل لكنها اثبتت انها لا تزال قادرة علي التأثير في المشهد السياسي العراقي وهو ما بعث برسالة قلق مزدوجة للعراقيين الذين راهنوا علي الاستحقاق الانتخابي لتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة والرئيس أوباما كخطوة للثقة في قدرة حلفائه العراقيين علي إدارة شئونهم بأنفسهم فيما بعد رحيل القوات الأمريكية. وأيا كانت معدلات الاقبال علي صناديق الاقتراع - والتي لن تكون مرتفعة بالطبع - وأيا كان الفائز من المتنافسين المالكي أو علاوي أو الحكيم فالأمر المؤكد أن نتيجة ما حدث جاءت بمثابة "خبر سيئ لأوباما" في وقت كان أحوج ما يكون إلي سماع نبأ سار من بغداد عوضا عما يتعرض له في أفغانستان وسائر التركة الثقيلة التي ورثها عن سلفه بوش الابن.