من مبدعين ونقاد ومهتمين؛فالمهرجان الذي اختتم دورته الثامنة والخمسين في السادس والعشرين من فبراير الماضي، ينفرد بخاصية غير مسبوقة في تاريخ المهرجانات العالمية تتمثل في كونه يختار لمسابقته الأفلام التي تتبني قيماً أخلاقية، وهو الهدف الذي أكده المنشور البابوي الذي أصدره البابا بيوسي الحادي عشر عام 1936 الذي جاء فيه: "يجب ايجاد رأي عام واسع النطاق لفن السينما لأن مهمة الفن ورسالته الجوهرية هي أن يكون عنصراً مواتياً لتحقيق الكمال الأخلاقي في الإنسان، فالسينما يجب أن تصبح أخلاقية وأداة للتربية والثقافة التي هي هبة من هبات الله". وأغلب الظن أنه الهدف الذي قام عليه المهرجان السنوي الذي تواكب مع نشاط المركز الكاثوليكي عام 1952، الذي كان ومازال هدفه تشجيع الأعمال السينمائية التي تسمو بالقيم الإنسانية والأخلاقية، وبسببه اكتسب مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما خصوصية وتفرداً بين المهرجانات السينمائية في العالم بأسره؛ فقد عرفنا المهرجانات التي تهتم بالأفلام الكوميدية والأسطورية والأفلام المستقلة وحتي الحب ينظم له مهرجان في مدينة "مونز" البلجيكية، لكنها المرة الأولي التي يقام فيها مهرجان للأفلام الأخلاقية، وكلنا يعرف أنه معيار مطاطي يصعب تحقيقه، فضلاً عن أن الدراما الناجحة هي تلك التي يؤكد مُنظر الدراما الأول أرسطو طاليس أنها تحقق أهدافها المرسومة إذا توافر فيها مبدأ التطهير، وهو المصطلح الذي يمكن تقريبه أو تبسيطه من الأذهان، بأنه "تنظيف النفس البشرية من براثن الشر المستوطنة في أدغالها"، وهو ما يعني أن فيلماً لن يحقق رسالته إلا إذا احتوي علي مشاهد يلعب فيها الشر دوراً، وأن بلوغ الغاية النبيلة يمر بأنواع الموبقات التي هي بالطبع غير أخلاقية، لكنه المعني الذي غاب عن أصحاب فكرة تأسيس مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما المصرية، بدليل أن المهرجان دأب، طوال دوراته السابقة، علي استبعاد أفلام لها قيمتها، بل ترتقي، لفرط إبداعها، إلي الحد الذي يجعل منها تحفاً فنية، بحجة أن من بين مشاهدها وأبطالها "عاهرة" أو"تاجر مخدرات" أو شاباً يشهر سكيناً في وجه أحد وبالطبع "علاقة مثلية" أو مشهداً يدور في الفراش(!)، وهو ما وصل إلي ذروته في الدورة الثامنة والخمسين (من 19 إلي 26 فبراير 2010) عندما فوجيء المراقبون، قبل السينمائيين والمشتغلين بالصناعة، بقرار استبعاد أفلام مهمة مثل : "إبراهيم الأبيض" و"احكي يا شهرزاد" و"واحد صفر" و"دكان شحاتة" من قائمة الأفلام التي عُرضت تجارياً عام 2009 ولها الحق في التسابق علي جوائز المهرجان، بحجة أنها تحث علي العنف والقتل والدم والشذوذ وتبث القيم الهابطة، في الوقت الذي وافقت إدارة المهرجان، برئاسة الأب يوسف مظلوم، علي مشاركة أفلام : "طير انت" و"ألف مبروك" و"ولاد العم" و"يوم ما تقابلنا" و"ميكانو" و"الفرح"، وليس لدينا بالطبع اعتراض عليها لكن من غير المقبول أن يتم اختيارها من منطلق أنها "أفلام نظيفة"، وفي المقابل يتم استبعاد قائمة طويلة من الأفلام الجميلة والساحرة التي لا يختلف أحد علي مستواها الفني والإبداعي فيما يوحي بأنها أفلام "غير أخلاقية" أو مناهضة للقيم الإنسانية، وهو الأمر غير الصحيح بالطبع، لكن الصمت علي هذا النهج الخاطيء شجع علي استمراره عاماً بعد الآخر، بل أن ممدوح الليثي رئيس جهاز السينما كان علي رأس الحضور في حفل افتتاح دورة هذا العام، ولم يصدر عنه تعليق واحد علي قرار استبعاد فيلم "واحد صفر" من إنتاج جهاز السينما الذي يترأسه، ربما لأنه تصور أن الفيلم يهاجم الكنيسة وبالتالي يستحق الاستبعاد (!) ولم يختلف الحال كثيراً مع المخرج الكبير توفيق صالح، الذي ترأس لجنة تحكيم الدورة الثامنة والخمسين، وغيره من السينمائيين الذين كُرموا وشاركوا وهنأوا وأشادوا من دون أن يتساءل أحد : كيف يتأتي لمهرجان يدعي دعم السينما أن يقتل الأفلام الجميلة منها؟ وأي نوعية من الأفلام تلك التي يبحث عنها؟ وكيف يعثر عليها من دون أن يسيء لغيرها أو يقلل من قدر أصحابها؟ لم يحدث شيء من هذا، لأن أحداً لم يجرؤ علي طرح هذه الأسئلة "المشروعة"، وكون المهرجان تابعاً للمركز "الكاثوليكي" ألزم الجميع الصمت خشية الاتهام بإثارة فتنة طائفية، والكل رفع شعار "يحيا الهلال مع الصليب"، ولم يضبط واحد علي الأقل وهو يبدي دهشته، ولن نقول استنكاره، حيال مهرجان "يقتل الأفلام الجميلة" بحجة أنها لا تدعو للأخلاق! أمر طيب بالطبع أن يتبني المركز "الكاثوليكي" مهرجاناً للسينما يكرم من خلاله رموزها في الوقت الذي تشتد فيه دعاوي تحريم الفن من قبل بعض الجهات والأشخاص في المجتمع، لكن الرسالة النبيلة التي تكمن وراء فكرة إقامة المهرجان الكاثوليكي ينبغي أن تكتمل بتكريم "السينما الحقيقية" لا "المزيفة"، فلا نبالغ عندما نقول إن شروط المهرجان تسهم في تضييق الخناق علي الأفلام الجيدة التي ينطبق عليها معني الإبداع، بينما تفتح الأبواب علي مصرعها أمام تواجد الأفلام السطحية أو التي تتعامل مع قضايا المجتمع بفتور وسلبية بحجة أنها "لا تتجاوز الخطوط الحمراء" و"لا تقترب من التابوهات"، وعلي رأسها الجنس والدين والسياسة، وهو نهج من التفكير يعكس سلبية وجبناً وإذعاناً وتسليماً بالوضع الراهن بالدرجة التي لا تجعل هذه السينما مؤهلة لأي تكريم أو تشجيع بل تأنيب وتقريع وتجاهل، وهو الخطأ الذي يقع فيه مهرجان المركز الكاثوليكي عندما يشجع هذه النوعية من الأفلام التي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تسمو بالقيم الإنسانية والأخلاقية لأن "فاقد الشيء لا يعطيه"!