لقد سبق أن سردنا قصة الصحفية البريطانية "إيفون رايلي" التي اعتقلها الطالبان، فخرجت من السجن.. ودخلت في الإسلام.. أما هذه القصة فقد وقعت في معتقل جوانتانامو.. وهذا الاسم يثير لدي القارئ انطباعات مفزعة: تعذيب وحشي.. معاملة لاآدمية.. انتهاكات مرعبة لحقوق الإنسان.. ممن؟ من أكبر دولة تتشدق بحقوق الإنسان.. أبطالها الرئيسيان هما تيري هولدبروكس، المجند في الجيش الأمريكي، الذي كان يعمل حارسا في معتقل جوانتانامو لمدة ستة أشهر، والثاني هو أحمد الراشدي،مغربي الجنسية كان معتقلا في ذلك السجن. كان ذلك في عام 2004. كان تيري هولدبروكس يراقب المعتقلين في جوانتانامو. قال الراشدي في رسالته الإلكترونية لصحيفة النيوزويك: "لأنني كنت أتحدث الإنجليزية، كنت أجد نفسي في وجه الجنود دائما". وقال إن ضابطا أمريكيا برتبة كولونيل في جوانتانامو أطلق عليه لقب الجنرال وحذره من أن الجنرالات "يتعرضون للأذي" إذا لم يتعاونوا. وقال إن مقاومته كلفته 23 يوما من إساءة المعاملة، بما في ذلك الحرمان من النوم، وتعريضه لدرجات حرارة باردة جدا وتقييده في أوضاع مؤلمة. وقال: "اعتقدت دائما أن الجنود كانوا يقومون بأشياء غير قانونية ولم أكن مستعدا لالتزام الصمت". سجن الراشدي بدا أمرا مشبوها فيه بصورة خاصة لهولدبروكس. فالمعتقل المغربي كان يعمل طاهيا في بريطانيا لنحو 18 عاما وكان يتحدث الإنجليزية بطلاقة. أبلغ هولدبروكس أنه كان قد سافر إلي باكستان في عمل تجاري في أواخر سبتمبر 2001 ليساعد في دفع نفقات عملية جراحية لابنه. وحين عبر الحدود إلي أفغانستان، قال إنه اعتقل من قبل قوات التحالف الشمالي وبيع للقوات الأمريكية بمبلغ 5000 دولار. وفي جوانتانامو، اتهم الراشدي بأنه التحق بأحد معسكرات التدريب التابعة لتنظيم القاعدة. ولكن تحقيقا أجرته صحيفة لندن تايمز عام 2007 بدا وأنه يدعم روايته لما حدث، وقد أدي ذلك في نهاية الأمر إلي إطلاق سراحه. هذان هما السجينُ والسجّان، وجها لوجه في ذلك المعتقل الجهنمي. يقول هولدبروكس إنه نشأ في ظروف صعبة في مدينة فينيكس فوالداه كانا مدمنين علي المخدرات وهو نفسه كان يفرط في تناول المشروبات المسكرة قبل التحاقه بالجيش عام 2002. كان تيري هولدبروكس يمضي غالبية نوبة دوامه اليومي وهو يقوم بواجباته المعتادة، فهو يقوم باصطحاب المعتقلين إلي التحقيقات أو التجول جيئة وذهابا أمام مربع زنازين المعتقلين للتأكد من أنهم لا يقومون بتبادل الملاحظات المكتوبة بينهم، ولكن نوبات عمل منتصف الليل كانت تمر بطيئة. وهكذا فقد بدأ هولدبروكس يمضي جزءا من الليل جالسا علي الأرض واضعا إحدي ساقيه علي الأخري، ومتحدثا إلي المعتقلين عبر الشبكة المعدنية لأبواب زنازينهم، وبمرور الوقت أقام علاقة قوية مع "الجنرال".. كانت أحاديثهما تتم في أواخر الليل، ودفعت هولدبروكس إلي أن يصبح أكثر تشككا في السجن، وجعلته يفكر بصورة أعمق في حياته هو نفسه. وسريعا بدأ يشتري الكتب عن اللغة العربية والإسلام، وعرف الإسلام... واتخذ القرار.. وذات مساء في مطلع 2004، تحدث مع الراشدي، سأله عن الشهادة، وهي العبارة الإيمانية القصيرة التي تعتبر المدخل الأساسي لاعتناق الإسلام ("أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"). ودفع هولدبروكس بقلمه وببطاقة ورقية صغيرة عبر شبكة الباب الحديدية، وطلب من الراشدي أن يكتب له كلمات الشهادة بالإنجليزية ثم بالعربية مكتوبة بأحرف إنجليزية. ثم نطق هولدبروكس بالشهادة بصوت مرتفع. وهكذا.. هناك علي أرضية معسكر دلتا بجوانتانامو، أصبح هولدبروكس مسلما، وتسمي باسم "مصطفي عبدالله". يقول هولدبروكس إنه هو أيضا يمكن أن يكون ميالا للاعتقاد بنظرية المؤامرة. فحين زارت سريته موقع هجمات 11 سبتمبر في نيويورك، تذكر هولدبروكس أنه كان لا بد أن يكون هناك تفسير أوسع لما حدث ،وأن إدارة بوش لا بد أنها كانت قد تعاونت بطريقة ما في المؤامرة. ولكن شكوكه حيال جوانتانامو بما في ذلك الشكوك بأن المعتقلين فيه هم "أسوأ الأسوأ" كان يتشاطرها معه حراس آخرون منذ فترة أبكر تعود إلي العام 2002. وقد بدأ عدد من هؤلاء الحراس بالتحدث عن ذلك علانية للمرة الأولي. فالمجند براندون نيلي، الذي كان في جوانتانامو حين وصل أول المعتقلين إلي ذلك المعتقل في ذلك العام، قال إن حماسه لتلك المهمة بدأ يذوي بسرعة وقال لنيوزويك: "كان عدد منا نحن الحراس الذين سألنا أنفسنا عن سبب معاملة هؤلاء المعتقلين بهذه الطريقة السيئة جدا، بل وما إذا كان هؤلاء إرهابيين فعلا". وحارس آخر، هو كريستوفر أرندت، ذهب في رحلة ألقي فيها المحاضرات مع معتقلين سابقين في أوروبا في وقت سابق هذا العام، حيث انتقدوا معتقل جوانتانامو. لقد تأثر هولدبروكس كثيرا بالإخلاص الذي أبداه المعتقلون لدينهم في جوانتانامو ويقول: "الكثير من الأمريكيين تخلوا عن الله، ولكن حتي في هذا المكان [كان المعتقلون] مصممين علي الصلاة ، وكذلك فإن هولدبروكس تأثر بسعة حيلة المعتقلين، وقال إن المعتقلين كانوا ينتسلون خيوطا من بدل سجنهم أو من سجادات الصلاة ويقومون بنسجها علي شكل خيط مجدول طويل يقومون به بنقل قصاصات الرسائل بينهم من زنزانة إلي أخري. ولاحظ أن أحد المعتقلين الذي كان يعاني حالة سيئة من الطفح الجلدي كان يقوم بدهن زبدة الفول السوداني علي نافذة زنزانته إلي أن ينفصل الزيت عن مسحوق الزبدة ليقوم بعد ذلك بوضع الزيت علي طفحه الجلدي!!. وقد أمضي المغربي أربعا من سنوات سجنه الخمس في جوانتانامو وفي مجمع العقاب، حيث (كان المعتقلون يحرمون من "مواد الراحة" مثل الورق والسبحات فضلا عن حرمانهم من ساحة التنزه والمكتبة). ويقول الراشدي إنه لا يتذكر تفاصيل الليلة التي اعتنق فيها هولدبروكس الإسلام. ويقول إنه علي مدي السنوات التي أمضاها في السجن بحث مع الحراس مجموعة من المواضيع الدينية. ويقول: تحدثت إليهم عن مواضيع مثل عيسي المسيح وإسحاق وإبراهيم والأضحية. تحدثت عن عيسي المسيح". ويتذكر هولدبروكس أنه حين أعلن أنه يريد اعتناق الإسلام، حذره الراشدي من أن اعتناق الإسلام سيكون مهمة جدية كبيرة، وفي جوانتانامو سيصبح الأمر مثيرا للتشويش. وقال هولدبروكس: "أراد أن يتأكد أنني أدرك تماما ما أنا علي وشك أن أقدم عليه". وأبلغ هولدبروكس لاحقا زميليه في غرفته، ولا أحد غيرهما، باعتناقه الإسلام. ولكن حراسا آخرين لاحظوا بعض التغير عليه، وسمعوا هؤلاء المعتقلين وهم ينادونه باسم مصطفي، ورأوا أن هولدبروكس كان يدرس العربية علانية. وفي إحدي الليالي اصطحبه قائد فريقه العسكري إلي ساحة خلفية حيث كان هناك خمسة حراس ينتظرون للقيام بنوع من التدخل المصطنع. ويقول مستذكرا: "بدأوا يصرخون علي، بدأوا يسألونني إن كنت عميلا، إن كنت قد بدلت موقفي وانضممت إلي المعتقلين". وفي لحظة ما، قام قائد الفريق بالتهيؤ لتوجيه لكمة له وتبادل الرجلان اللكمات. مسلم آخر خدم هناك في الفترة نفسها عاش خبرة مختلفة. فالكابتن جيمس يي، وهو الذي كان مرشدا دينيا في جوانتانامو طوال غالبية عام 2003، اعتقل في سبتمبر من ذاك العام للاشتباه بأنه ساعد العدو وجنايات أخري، وهي تهم تم إسقاطها لاحقا عنه. "يي" اعتنق الإسلام قبل سنوات من ذهابه إلي جوانتانامو. وقال إن المسلمين من بين الموظفين في جوانتانامو وغالبيتهم من المترجمين شعروا غالبا بأنهم كانوا محاصرين. وقال يي: "كان هناك جو عام من قبل القيادة بالحط من الإسلام وتشويه سمعته". وبعد تسريحه من الخدمة العسكرية عاد هولدبروكس إلي الشرب ثانية، وذلك جزئيا لكبت مشاعر الغضب التي سيطرت عليه. (نيلي، الحارس السابق الآخر الذي تحدث إلي نيوزويك، قال إن جوانتانامو جعله يشعر باكتئاب شديد دفعه إلي إنفاق ما يصل إلي 60 دولارا يوميا علي المشروبات الكحولية خلال إجازة شهر من مركز الاعتقال عام 2002). طلق هولدبروكس زوجته وانزلقت حياته هبوطا أكثر وأكثر، ولكنه عاد إلي الاتصال بالراشدي الذي عاني بسبب محنته هو الآخر منذ أن غادر المعتقل. وأبلغ الراشدي نيوزويك أنه يجد من الصعب عليه التكيف مع حريته الجديدة:"أحاول أن أتعلم المشي من دون قيود وأحاول أن أنام في الليل والأضواء مطفأة" ولكن مصطفي عبدالله "هولدبروكس" الآن في ال25، أقلع عن الشراب، وانصلح حاله ،وبدأ يحضر الصلوات بانتظام في مركز تمب الإسلامي، وهو مسجد بالقرب من جامعة فينيكس، حيث يعمل كمستشار للمركز. وهكذا: في سجن الطالبان دخل السجينُ في الإسلام ،وفي معتقل جوانتانامو دخل السجّان في الإسلام.... هل أدركتم السبب؟