إبان ثانية زياراته لطهران قبل نهاية الشهر الماضي، بدا رئيس الوزراء التركي كما لو كان يرمم أسس العلاقة المزمنة بين بلاده وإيران حينما أعلن أنهما تشكلان محورا للاستقرار في المنطقة، التي أكد أن أمنها لن يتأتي من إملاء الحلول الخارجية لمشاكلها بقدر ما يتحقق بجهود دولها لاسيما الفاعلين الإقليميين فيها كتركيا وإيران. ولعل أردوغان بذلك يحاول طمأنة الإيرانيين علي مستقبل علاقات البلدين في مرحلة حرجة تعصف بالمنطقة عبر تأكيد السمت الثابت لتلك العلاقات والقائم علي أسس براجماتية صلبة تتجلي في توازن المصالح وتقنين الوضع القائم وحسن الجوار وحرص كل طرف علي تجنب استفزاز أو استعداء الطرف الآخر، استنادا إلي حزمة من الركائز أبرزها: توازن القوي القائم بين الطرفين طيلة قرون، وتفاهمهما بشأن أمن الطاقة حيث تقوم إيران بتزويد تركيا بثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي بينما لا يوصد الطرفان كلية باب التفاهم مع الغرب حول مشروع نابوكو لنقل النفط والغاز من وسط آسيا إلي أوربا من دون المرور بالأراضي الروسية. هذا علاوة علي التنسيق في المسائل الأمنية المتعلقة بأفغانستان وباكستان والمشكلة الكردية فضلا عن التعاطي مع حركات التمرد المسلح التي تقض مضاجع نظامي أنقرةوطهران، علاوة علي توافق جيوإستراتيجي يتأتي من اعتبار تركيا لإيران شريكا يصعب الولوج المستقر من دونه إلي وسط آسيا، واعتبار إيران لتركيا جسرا آمنا يبقي علي وشائج التواصل بين طهران والغرب في أصعب الظروف. ومن خلال براجماتيتهما المفرطة المتجاوزة للخلافات الإيديولوجية والمذهبية، نجحت تلك العلاقات في تطويق بواعث التوتر المتجددة، والإبقاء علي صيغة هي إلي التفاهم الإضطراري القائم علي ترويض الخلافات أقرب منه إلي الصداقة أو التحالف. ولعل في حقبة ما بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ما يبرز هذا السمت الفريد لعلاقات البلدين. فعلي الرغم من إجهاز تلك الثورة علي الترتيبات والهياكل المؤسسية الأمنية التي جمعتهما كحلف بغداد و منظمة الميثاق المركزي، لم تعبأ تركيا بتهديدات الخميني بتصدير الثورة أو بإنتقاداته لحركة أتاتورك التحديثية، ما حال دون حدوث تدهور حقيقي في علاقات البلدين. وما إن إندلعت الحرب العراقية الإيرانية، حتي لجأت إيران الخمينية لتركيا للاستعانة بأراضيها كممر لوجيستي آمن لتلبية الاحتياجات الإيرانية الاقتصادية والعسكرية من العالم الخارجي. وهو الأمر الذي أتاح لتركيا تحقيق مكاسب اقتصادية طائلة. وفي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، نأت تركيا بنفسها، عن تكييل الاتهامات لنظام طهران بشأن نفوذه في العراق أو سعيه لتكوين هلال شيعي، كما لم تشاطر المجتمع الدولي هجومه علي برنامج إيران النووي، حيث أعلن أردوغان احترام بلاده لحقها في حيازة برنامج نووي سلمي ، ورفضها معالجة الأزمة النووية الإيرانية بالقوة، أو استخدام مجال بلاده الجوي أو قواعدها لهذا الغرض. وبدوره، أسهم الجفاء الذي ألم بعلاقات أنقرةوواشنطن عقب رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية بعبور الأراضي التركية لغزو العراق ومن بعده موقف واشنطن المراوغ إزاء المسألة الكردية، في إضفاء بعض الدفء علي علاقات أنقرةبطهران. ورويد رويدا بدأ القلق الإيراني من علاقات تركيا بإسرائيل يتزحزح مع مساعي حكومة العدالة والتنمية لإنعاش الدور الإقليمي التركي بغية توظيفه ضمن أوراق اعتماد أنقرة لعضوية الإتحاد الأوربي، والتي تكثفت علي إثرها جهودها لوقف الاعتداءات الإسرائيلية علي لبنان عام 2006، ثم انتقاداتها اللاذعة لإسرائيل بجريرة عدوانها علي غزة نهاية عام 2008، وكذا رفضها إشراكها في مناورات عسكرية دولية كانت ستستضيفها تركيا مطلع الشهر الماضي. وعلي الرغم من نمو بواعث القلق والتوتر بين البلدين في طيات علاقاتهما الوليدة قبل قرون خلت، تسني لتلك العلاقات الاحتفاظ بسمتها التفاهمي حتي اليوم وسط التحديات التي تحاصرها وتغذي المخاوف المتبادلة لطرفيها. فمن جانبها، لم تخف إيران قلقها جراء علاقات تركيا الإستراتيجية بإسرائيل وأمريكا واللذين تشهد علاقات طهران بكليهما تدهورا متناميا، تجلي في دعم واشنطن للدور الإقليمي التركي علي حساب نظيره الإيراني إلي الحد الذي عزز عودة أنقرة لمنازعة طهران النفوذ في الشطر القوقازي مما يسمي بالعالم التركي، الذي يشكل بؤرة لأمن الطاقة العالمي. أما تركيا، التي لم تخف دوائر عسكرية وعلمانية بها مخاوفها من إمكانية تأجيج تقارب حكومة العدالة مع إيران للتوتر الكامن بين أنقرة وكل من واشنطن وتل أبيب، فينتابها قلق من تعاظم النفوذ الإيراني بالعراق في الوقت الذي لا يبدو نفوذ تركيا هناك متناسبا مع مصالحها وتطلعاتها الإقليمية. وتشكل طموحات إيران النووية، برغم ما تبديه تركيا من تفهم للمقاصد المدنية لبرنامجها النووي، مصدر إزعاج حقيقي لأنقرة من جهتين: أولاهما، أن نجاح إيران في امتلاك السلاح النووي عبر صفقة سرية مع واشنطن وتل أبيب من شأنه أن يخل بالتوازن الإستراتيجي الذي هو دعامة إستقرار العلاقات التركية الإيرانية، ما قد يدفع أنقره إلي التخلي عن حيادها النووي، خاصة وأنها دولة غير نفطية تلاحقها حاجة متزايدة للطاقة كما تتطلع دوائر عسكرية فيها للخروج من إطار الدولة المستودع للترسانة النووية الأمريكية وإنهاء التبعية في ميدان الطاقة للدول النفطية المجاورة. أما ثانيتها، فتكمن في أن فشل طهران في إبرام تلك الصفقة مع واشنطن وتل أبيب وما قد يستتبعه ذلك من إقدام إحدي الأخيرتين أو كلاهما علي مهاجمة إيران، سوف يزج بتركيا إلي دوامة جديدة من الحسابات المعقدة بشأن السماح من عدمه بتسخير أجوائها وقواعدها الجوية لهذا الغرض، الأمر الذي يحمل بين ثناياه تهديدا للأساس التفاهمي للعلاقات التركية الإيرانية، مثلما ينذر بإنبعاث التوتر في علاقات أنقرةبواشنطن وتل أبيب. هذا ناهيك عن إضطرار تركيا إلي تحمل التبعات الثقال لهذا الهجوم. لعله إذن حرص من جانب قوتين شرق أوسطيتين تتجاوز طموحات كل منها الإستراتيجية حدود دولتها، علي تلافي الإنزلاق إلي دائرة مفرغة من صراعات مذهبية وجيوإستراتيجية تنهك قوتهما لمصلحة أطراف دولية وإقليمية أخري، وهو حرص يعضده تطلع كل طرف لتعظيم مغانمه من علاقة التفاهم الإضطراري المتبادل، حيث تتطلع أنقرة لتوسيع دائرة عمقها الإستراتيجي بما يعزز من موقفها التفاوضي مع حلفائها الغربيين ويعظم من فرص ولوجها إلي فردوسها الأوروبي، وظهيرا أو خيارا موازيا تتحصن به حالة إخفاق أو تعثر رهانها علي الغرب. في حين تحرص طهران بدورهاعلي الاحتفاظ بنافذة حيوية تطل من خلالها علي المجتمع الدولي وتبقي عبرها الباب مواربا أمام أية صفقات جديدة محتملة بين نظامها البراجماتي ونظيريه المترقبين في كل من واشنطن وتل أبيب.