لم يعد أمام حركتي فتح وحماس إلا إنهاء الانقسام الذي قسم الوطن المحتل منذ يونيه 2007 وضرب القضية الفلسطينية في مقتل مما أغري حكومة المتطرفين اليهود التي يقودها بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود وافجيدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل، بيتنا تمضي قدماً باتجاه تصفية القضية الفلسطينية من جذورها والانتقال بالصراع إلي مرحلة جديدة تسعي خلالها إلي اعتراف الفلسطينيين ليس بحدود الدولة العبرية القائمة علي أرض فلسطين التاريخية ولكن أيضاً بتكريس "يهودية" إسرائيل كشرط لاستئناف المفاوضات والاقرار بحل الدولتين وهو ما يعني عملياً التخلص من حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذي تقره القرارات والمواثيق الدولية فضلاً عن فتح الطريق إلي تهجير فلسطين الداخل "عرب إسرائيل" الذين يشكلون 20% من سكان الدولة العبرية. وقد أغري الانقسام الفلسطيني الذي تكافح القاهرة لوضع نهاية له في 22 أكتوبر الجاري عبر توقيع اتفاق مصالحة تاريخية بحضور كافة الفصائل الفلسطينية وتحت مظلة عربية حكومة نتنياهو إلي ربط استئناف المفاوضات بالاعتراف بيهودية إسراذيل وهو ما رفضه الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبومازن" غير أن هذا الموقف المبدئي لم يمنعه من حضور اللقاء الثلاثي في واشنطن ومصافحة نتنياهو بحضور الرئيس الأمريكي باراك أوباما حتي يقطع الطريق علي الجانب الإسرائيلي لاتهامه بافشال مساعي الرئيس أوباما لانجاز حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي باعتباره مصلحة أمريكية تخدم الأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط وحول العالم. فشل الاجتماع الثلاثي ورغم أن الاجتماع الثلاثي لم يسفر عن دفعة قوية للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة منذ نهاية عام 2008 بل إن البيت الأبيض عمد إلي الهبوط بسقف التوقعات منه واعتبره مناسبة لالتقاط الصور الفوتوغرافية ليس إلا.. إلا أنه كان فرصة كي ينقل أبو مازن رؤيته لاستئناف المفاوضات وتمسكه بتجميد كل أشكال الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربيةالمحتلة ومحيط مدينة القدس وهو ما تقوم به إسرائيل حالياً.. وأكثر من هذا تعكف حالياً علي تنفيذ مخطط مدروس تسمح بمقتضاه للمتطرفين اليهود بتنفيذ سلسلة من الاقتحامات المبرمجة لباحة المسجد الأقصي "أو جبل الهيكل بالمسمي الإسرائيلي" وتأدية شعائر تلمودية وذلك ارضاء للمتطرفين اليهود من جهة واختيار رد الفعل الفلسطيني والعربي والإسلامي إزاء هذا التصعيد المقصود والمتعمد تمهيداً لتقسيم الحرم القدسي الشريف وتكرار سيناريو المسجد الإبراهيمي. المهم أن حكومة نتنياهو التي لم تبد أي مرونة مع جهود الرئيس أوباما محل صراع الشرق الأوسط ورفضت تجميد الاستيطان للمساعدة علي استئناف المفاوضات مكتفية بالتلويح بوقف مؤقت للاستيطان في الضفة، وهو ما يعكس موقفاً مراوغاً ومضللاً، ولاسيما أنها غداة إطلاق هذا التصريح كان وزير الدفاع ايهود باراك يعطي الضوء الأخضر لبناء نحو ثلاثة آلاف منزل جديد بزعم أن تصاريح بنائها تعود إلي فترة سابقة. تحدي أوباما ويبدو أن غياب الضغط الأمريكي الحقيقي وانقسام الموقف الفلسطيني بين فتح وأخواتها وحماس وحلفائها هو ما شجع إسرائيل علي تحدي جهود أوباما بل وإملاء إرادتها علي الجميع والسعي لفرض أمر واقع في القدس بهدف إخراجها من دائرة المفاوضات النائية وحرمان الدولة الفلسطينية في المستقبل من اتخاذ القدسالشرقية عاصمة لها. ويبدو أيضاً أن حكومة نتنياهو عبر اقدامها علي التصعيد في المسجد الأقصي ثالث الحرمين الشريفين تلعب بالنار وتقامر باشعال انتفاضة فلسطينية ثالثة متجاهلة عن قصد أو بدون قصد أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون إلي باحة الأقصي نفسها كانت السبب المباشر في اندلاع انتفاضة الأقصي في سبتمبر 2000 والتي سرعان ما امتدت إلي بقية الأراضي المحتلة. وفي هذا السياق حذرت السلطة الفلسطينية تل أبيب من اشعال برميل بارود ينطلق من القدس مؤكدة أن سعي الاحتلال لتقسيم قبلة المسلمين الأولي ومعراج الرسول محمد مثلما حدث في الماضي من تقسيم للحرم الابراهيمي الشريف في مدينة الخليل. وقالت إن السياسة المراوغة التي ترمي إلي خلق حقائق جديدة علي الأرض ستشعل برميل الباورد وستعيد المنطقة كلها إلي حلقة مفرغة تنسف كل دعوات التسوية وتحكم بالاعدام علي المسار السياسي. وألقي بيان وزارة الإعلام الفلسطينية بالكرة في ملعب القوي العظمي مذكراً بالضجة التي أعقبت تدمير حركة طالبان الأفغانية كما قيل "بوذا" في مدينة باميان في مارس 2001 والتي لم تنته حتي الآن.. وحذر البيان من استمرار سياسة ازدواجية المعايير الأخلاقية والسياسية. تخاذل عربي ومن المؤسف أن الموقف العربي الذي وصفه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي بالانهيار في أعقاب تأجيل مناقشة تقرير القاضي ريتشارد جولدستون الخاص بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها الأخير علي قطاع غزة.. قد لاذ بالصمت والتجاهل لما يحدث فيما عدا بعض الاستثناءات حيث حذرت مصر علي لسان وزير الخارجية أحمد أبو الغيط من رغبة الممارسات الإسرائيلية في المسجد الأقصي.. كما ندد الأردن بالتصعيد الإسرائيلي ودعا إلي وقف الانتهاكات فوراً، معتبراً أن القدس "خط أحمر" بالنسبة له. والتساؤل الذي يطرح نفسه: منذ متي وإسرائيل تتحدث بلغة التحذيرات والتنديدات؟ لقد علمتنا خبرة نصف قرن من الصراع أن هذه الدولة لا تعترف بغير لغة القوة.. حدث ذلك عندما تجرعت مرارة الهزيمة لأول مرة في حرب أكتوبر 1973 مما دفعها إلي الجلوس علي طاولة المفاوضات.. وتكرر المشهد عقب انتفاضة الحجارة التي أفرزت اتفاقية أوسلو.. ثم تكرر ذات المشهد في عام 2000 عندما أنهت احتلالها لجنوب لبنان قبل أن تلقي هزيمة مذلة في مغامرة العدوان علي لبنان 2006 وتجبر علي إبرام صفقة تبادل الأسري بشروط سبق أن رفضها رئيس وزرائها السابق ايهود أولمرت.. وهو ما يتكرر حالياً مع الفصائل الفلسطينية التي أسرت الجندي جلعاد شاليط ونجحت في تحرير 20 أسيرة فلسطينية مقابل شريط فيديو قصير يثبت أنه علي قيد الحياة ضمن صفقة أشمل لاطلاق الجندي مقابل تحريري مئات الأسري في سجون الاحتلال. بالون اختبار تساؤل آخر لا يقل أهمية: هل ما يجري من تصعيد إسرائيلي مجرد صدفة أم أنه أمر معد سلفاً ولاسيما وأن القدس اختيرت عاصمة للثقافة العربية للعام الحالي.. بما يعني أن ما يحدث من انتهاكات حالياً ليس سوي "بالون اختبار" لعزيمة الفلسطينيين علي التحدي والصمود أم أن الانقسام أنهي علي ما تبقي من قوتهم ودفعهم لرفع الراية البيضاء أمام المخططات الإسرائيلية؟ ولا يمكن الفصل بين مخطط استفزاز الفلسطينيين واقتراب موعد إعلان الرئيس أوباما لرؤيته سجل الصراع في الشرق الأوسط.. والمعني أن إسرائيل تعلم حساسية القدس لدي الفلسطينيين والمسلمين والمسيحيين تسعي إلي جر الفلسطينيين باتجاه دورة جديدة من العنف واستئناف العمليات الاستشهادية وهذا ما يكفي لانسحاب أوباما من القضية برمتها.. أو علي نحو أدق "تجميد" مخططاته، ولاسيما في ظل الأزمات التي يحملها علي عاتقه وفي مقدمتها شبح الهزيمة التي يطارده في أفغانستان والأزمة المالية العالمية وأزمة مشروع الرعاية الصحية وكذلك الملف النووي الإيراني. إن تهويد القدس واستهداف الأقصي قضية متجذرة في العقلية الإسرائيلية وقد أقدم متطرف يهودي علي دق المسجد الأقصي قبل 40 عاماً.. وما يحدث اليوم ليس منبت الصلة عن هذه الجريمة.. وعلي حد قول عمرو موسي فإن القدس تتعرض اليوم لأشرس مراحل تهويدها وأن ممارسات إسرائيل تشكل تحدياً سافراً للعالم العربي والإسلامي، مؤكداً أن الصمت الدولي يشجع إسرائيل علي المضي قدماً في مخططها. واتفق مع الرأي السابق رئيس أساقفة طائفة الروم الأرثوذكسي المطران عطا الله حنا تحدث عن مؤامرة كبري علي القدس ومقدساتها ودعا العرب والمسلمين والمسيحيين إلي التحرك من أجل القدس قبل أن تضيع من بين أيديهم ويكمل مشروعه بالتطهير العرفي لسكانها الأصليين كما دعاهم إلي رفع أصواتهم للتنديد بالعنصرية الإسرائيلية. وبدون أدني شك فإن المسجد الأقصي في خطر حقيقي ولا يستطيع أحد أن يتكهن بتطورات الموقف خلال الساعات المقبلة، ولاسيما في ظل حشد آلاف من قوات الأقصي وحرمان الفلسطينيين من دخوله بغرض تأمين صلاة آلاف اليهود أمام حائط المبكي ضمن احتفالات عيد المظلات اليهودي وهو ما ينذر باندلاع مواجهات دامية قد تتطور إلي انتفاضة ثالثة.