يزداد الضباب الذي يلف مستقبل "الناتو" كثافةً في وقت تشارف فيه المنظمة عيد ميلادها الستين. في هذه الأثناء، كتب "جودي دمبسي"، الخبير في شئون أوروبا الوسطي بصحيفة "إنترناشيونال هيرالد تريبيون"، مقالا أشار خلاله إلي أن الولاياتالمتحدة خلصت تقريبا إلي أن الوقت قد حان كي تتسلم القيادة الأمريكية في أفغانستان السيطرة الكاملة علي القوة الغربية المزدوجة المنقسمة (دون سبب منطقي) في أفغانستان، وهي القوة التي يتْبع جزء منها حاليا ل"الناتو" وجزء آخر للولايات المتحدة. والعملية الأخيرة التي قامت بها القوة والتي أطلق عليها اسم"الحرية المستمرة"، وهو اسم يأتي علي غرار تلك الأسماء الغريبة التي اعتادت "البنتاجون" منذ وقت طويل إطلاقها علي العمليات العسكرية التي يقوم بها، والتي كان يتم في السابق إعطاؤها أسماء ذات ارتباط بالمجال البشري مثل "السندان" و"الشعلة"، وما إلي ذلك من أسماء مشابهة. هذه القوة المزدوجة، هي نتيجة للفشل في جعل "الناتو" ينخرط بشكل جدي في أفغانستان. ففي المخطط المتفق عليه - وإنْ بشكل غير رسمي للحلف -يفترض أن تشن الولاياتالمتحدة حروباً من أجل الحرية علي أن يتولي الأوروبيون إزالة الحطام الذي يترتب علي ذلك وبناء المدارس والمؤسسات الديمقراطية. لكن ما حدث في أفغانستان، هو أن "طالبان" استغلت الاهتمام الكامل الذي أبدته واشنطن بالعراق، وتمكنت من العودة إلي البلاد مرة أخري، مما وضع وحدات "الناتو" في موقف رد الفعل، ولم يتح لها فرصة تنفيذ ما كان يفترض أن تقوم به وفقاً للمخطط المتفق عليه. كان هذا ما فعله حلف شمال الأطلسي، ولكن بأسلوب مشرذم كما كان متوقعاً، ولاسيما بعد أن قامت كل حكومة من حكومات البلدان الأعضاء في الحلف، بتحديد تعريفات مختلفة لمهام وحداتها العسكرية هناك. فخاض البعض المعارك مثل الكنديين؛ في حين ذهب آخرون لبناء المدارس. أما القوات الأمريكية الموجودة، فقد كانت في الغالب بعيدة ومنعزلة جغرافيا عن المكان الذي تعمل فيه باقي قوات "الناتو"؛ ومنخرطة تماماً في مطاردة عبثية لزعيم تنظيم "القاعدة" وغيره ممن كان يحلو لوزير الدفاع الأمريكي السابق رونالد رامسفيلد أن يسميهم ب"الأشرار". والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن الوضع العام في أفغانستان قد شهد بعض التحسن، وإن كانت الطريقة التي أديرت بها الحرب لم تكن مرضية في نظري. ثم ها هو أوباما اليوم يقرر (لأسباب خاطئة بشكل كارثي) أن يصبح هو أيضاً "رئيس حرب"، تماماً كما فعل سلفه بوش؛ ويعتقد أن فوزه في الانتخابات يعني أنه سوف يحقق النصر في أفغانستان، بل وحتي باكستان، التي لم تكن ضمن حساباته الأولية، أو علي الأقل هذا ما يبدو أمامنا الآن. وليست باكستان واحدة، وإنما ثلاث دول مثلها، فبفضل مخطط موالٍ لإسرائيل، طرحه "المحافظون الجدد" في نيويورك، ويرمي إلي تدمير باكستان باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية، تبدو دوائر مهمة في باكستان مقتنعة اليوم بأن الولاياتالمتحدة تنوي تقسيم باكستان إلي ثلاث دول جديدة، أكبرها هي "بلوشستان" جديدة في الجنوب الغربي من البلاد حيث كانت توجد دائما ميول انفصالية. أما الجزء الكبير الثاني فمن المفروض، حسب هذه الخطة أن يسلَّم لأفغانستان، لإرضاء الطموحات الإقليمية القديمة لسكانه، علي أن تتولي الدولةُ الجديدة التي ستقام في هذا الجزء، التي تضم كل أراضي الشمال الغربي المضطربة التي تهيمن عليها قبائل البشتون التي ستعمل في هذه الحالة علي سحق "طالبان" كنوع من التعبير عن العرفان بالجميل لمساعدتها علي إقامة دولة خاصة بها. أما الدولة الثالثة، فيمكن أن تتشكل من الأراضي المبتورة الممتدة علي طول الحدود الهندية، والتي من الواضح أنها ستخضع للهيمنة العسكرية لنيودلهي، التي تعتبر الصديق الأفضل الجديد لواشنطن في منطقة جنوب آسيا. في باكستان، يمكن لمخطط من هذا القبيل أن يولد نفس مشاعر العداء - ولكن ليس نفس درجة عدم التصديق -التي ولدتها خطة لتقسيم الولاياتالمتحدة التي دخلت مرحلة الأفول في التقهقر نشرها مؤخرا أحد المراكز البحثية في موسكو، ولكن ليس نفس مشاعر التشكيك ربما. فوفق هذه الخطة، ستتألف الولايات التي لم تعد متحدة من هلال يضم كلا من فلوريدا، وأريزونا، ونيوميكسيكو، ونيفادا، وكاليفورنيا سوف يعاد مرة أخري إلي المكسيك؛ ؛ ومن غرب أوسط يسلَّم معظمه لكندا؛ ومن كتلةِ ولاياتِ الشمال الغربي المطلة علي المحيط الهادي إضافة إلي ألاسكا والتي ستكون من نصيب روسيا. أما ما تبقي من الولاياتالمتحدة المعروفة لنا حتي الآن والذي يتكون في معظمه مما يعرف بولايات "الحزام الصدئ" زائد الأراضي التي يسكنها" البيض الأنجلوساكسون الذين يدينون بالبروتستانية" مع (وول ستريت!)، فسوف يتم تركها كي تتدبر أمرها (لست أنا صاحب هذا الكلام!). لننس التقسيم الافتراضي لباكستان الآن (الذي وإن كان لا يزال مخططاً من بين مخططات أخري عديدة ل"لمحافظين الجدد"، إلا أنه ينبغي أخذه علي محمل الجد)، ولنتذكر أن "الناتو" الذي يشارف عيدَ ميلاده الستين يواجه اليوم احتمال عودة كل وحداته التي لا ترغب في القتال تحت الراية الأمريكية بدلا من راية "الناتو" إلي أوطانها؛ من أجل "الدفاع" عن أوروبا، لكن ضد من؟ هل ضد روسيا التي لم تعد لديها طموحات أوروبية، وليست لديها اليوم أي إيديولوجيا، ولم تجب بعد عن أسئلة عميقة تتعلق بمستقبلها السياسي القومي، ولا تبغي في الوقت الراهن سوي أن تُترك لحالها لتبيع النفط؟ أم للدفاع عن أوروبا ضد تهديدات لمصادر طاقة أوروبا الشرق الأوسطية؟ في هذه الحالة، تشير مصالح "الناتو" الطويلة الأمد إلي أهمية عقد علاقة صداقة أفضل مع إيران والسعودية ودول الخليج العربي. ما لا تحتاجه بلدان "الناتو" الرئيسية هو توسيع نطاق الحلف أو حرب تشنها أمريكا في وسط وجنوب آسيا. لكن عندما يأتي الجنرال ديفيد بيترايوس إلي مقر "الناتو" في كابول ليقول: "أيها الأصدقاء، لقد حان الوقت كي تحسنوا تصرفاكم، وترتفعوا إلي مستوي المسؤولية الملقاة علي عاتقكم، أو ترحلوا من هنا"عندئذ سيكون جوابهم: "سيدي، إن أمتعتنا محزومة، وقد سررنا بالعمل معك، ولكن رجاءً تقبل نصيحتنا الأخيرة قبل أن نرحل: إنه لا مستقبل لأي جندي أوروبي في هذا البلد!".