ربما تكون المرة الأولي في مصر منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل التي تهتم - ولا تحتفل - وسائل الإعلام بتلك المُناسبة التاريخية برغم أننا نحتفل بيومي 6 أكتوبر و 25 إبريل ونعتبر اليومين أعيادا وطنية وأجازة رسمية؛ والمناسبتان إذا أمعنا النظر لهما علاقة مباشرة بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. وهذا الأمر مفهوم من الناحية النفسية، فلم يكن سهلا أن يُشاهد الناس في مصر والعالم العربي الرئيس السادات وهو يوقع اتفاقية سلام مع إسرائيل التي خضنا ضدها أربعة حروب في أقل من ثلاثة عقود قدمت فيها مصر آلاف الشهداء ورهنت جُزءا كبيرا من مستقبلها من أجل هذا الصراع. لكن تجاهل واقعة اتفاقية السلام لم يكن ليُلغي وجودها، بل لعلها كانت حاضرة باستمرار عندما يُدافع عنها البعض ويري فيها حدثا عظيما غير تاريخ المنطقة؛ وأيضا وعلي النقيض عندما يُطالب البعض بإلغائها، وقطع العلاقات مع إسرائيل بوصفها عدوا أبديا لا مناص من الصدام معه مهما طال الأمد، وهي نظرية يعتنقها عدد لا بأس به في مصر وفي العالم العربي وأيضا الإسلامي. عندما ننظر إلي 26 مارس 1979، وتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في هذا التاريخ، نجده يمثل الرافعة الثانية بعد حرب أكتوبر 1973 من أجل تصحيح الخلل الجسيم الذي وقع نتيجة هزيمة حرب 1967 واحتلال إسرائيل لسيناء وأراض أخري عربية. فبعد ست سنوات فقط من هزيمة 67، كانت حرب أكتوبر الرافعة الأولي التي أذهلت إسرائيل والعالم بعد أن ظن الجميع أن مصر قد صارت جثة هامدة. ثم بعد ست سنوات أخري في 1979 كانت اتفاقية السلام مع إسرائيل، أو الرافعة الثانية، التي أعادت سيناء كاملة إلي مصر في 25 إبريل 1982. وهذا يعني أن مصر قد حققت المعجزة في خمسة عشر عاما فقط، وأعادت الوضع إلي أصله، في حين أن دولا أخري مرت بنفس التجربة لكنها لم تجن نفس النتيجة بسبب عدم إيمانها بمنطق "هجوم السلام" الذي تبناه الرئيس السادات وإن لم يعش ليري نتيجته النهائية. فيما بين 6 يونيو 1967 و 25 إبريل 1982، حدث تحول أساسي في الفكر الاستراتيجي المصري كانت معاهدة مارس 1979 جزءا جوهريا فيه لا يقل -من وجهة نظري- عن قرار حرب أكتوبر 1973. هذا التحول يمكن إجماله في عدد من العناصر الأساسية: 1- أن تحرير فلسطين من النهر إلي البحر وطرد اليهود منها ومسح إسرائيل من علي الخريطة لم يعد هدفا إستراتيجيا لمصر كما كان يتردد في الخطاب الناصري، وأن الأولوية تحرير سيناء من الاحتلال، وإعادة تكييف حل القضية الفلسطينية في إطار قابل للتطبيق ومن إحدي صوره إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل. وفي الحقيقة لقد بدأ هذا التحول في عصر الرئيس عبد الناصر بقبوله قرار مجلس الأمن 242 ومبادرة روجرز. وقد تعرض الرئيس عبد الناصر لنفس الهجوم الذي تعرض له الرئيس السادات والرئيس مبارك الآن من أنصار فكرة إزالة إسرائيل من الوجود. ولا يعني ذلك أن التحول كان مصريا فقط، فقد آمنت "الأغلبية" الإسرائيلية بأن حلم إسرائيل الكبري لم يعد مُمكنا ولا عمليا، وهو الحلم الذي بدا في متناول اليد بالنسبة للمتشددين هناك بعد حرب يونيو 67. 2- أن الحرب والسلام لابد أن يكون لهما أهداف واضحة قابلة للتحقيق، كما لا يجب تجاهل المحيط الإقليمي والدولي بدون أن يضع ذلك قيودا غير مقبولة علي القرار المصري. وعلي العكس من حرب يونيو 67 جاءت حرب أكتوبر من صميم الفكر العسكري المُحترف تدريبا وتمهيدا وتحديدا للهدف. 3- أن السلام هو استمرار للحرب ولكن بطريقة أخري. فالسلام ليس مصافحة باليد أو ابتسامة في الوجه ولكنه هدف وخطة وتحالف وهجوم ودفاع. وفي الحقيقة لقد بزغ السلام في الفكر الساداتي في الأيام الأولي من حرب أكتوبر، فقد بدأ اتصالاته مع كيسنجر والإدارة الأمريكية مُبكرا وهو ممسك بزمام المبادرة والمفاجأة، وكان ذلك موضع نقد واسع من مُعارضيه لكن الواقع قد أثبت أن السادات كان يمتلك رؤية مستقبلية لا تقوم علي العموميات المُبهمة ولكن علي قياس دقيق للقوة والقدرة علي الفعل والتغيير. وبدون مُبالغة، لم يكن "السلام" شعارا شعبيا في منطقتنا في ذلك الوقت، ومازال يُنظر إليه حتي الآن كقرين للاستسلام، وإذا تحقق هدف من خلاله وُصم الهدف بالسهولة أو أنه كان من الأصل سوف يتحقق بدون مجهود. 4- أن علاقة مصر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية علاقة استراتيجية، وأنها بالتأكيد أحد مكاسب حربي أكتوبر وهجوم السلام الذي تلاها بعد ذلك. ولاشك أن أداء مصر في حرب أكتوبر، ثم أسلوب مصر في عملية السلام، قد رشحها بعد ذلك لأن تكون شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة علي المستوي الإقليمي والدولي. وقبل حرب أكتوبر كانت أمريكا تنظر إلي مصر كبلد "شعارات" مثلها مثل البلدان الأخري في المنطقة، لكن مذكرات كيسنجر عن حرب أكتوبر توضح مدي دهشته من التحول المصري في المزج بين الحرب والدبلوماسية، والقدرة علي اتخاذ مبادرات شجاعة غير متوقعة، وكذلك وحدة القيادة وهو تحول رشح مصر إلي دور أكبر. وكثير من الإسرائيليين أفزعهم استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولاياتالمتحدة بعد شهر واحد تقريبا من بداية حرب أكتوبر، ثم بدء التدريبات المشتركة وتزويد مصر بالأسلحة الحديثة، وأكثر ما أزعجهم أن تأتي مصر في المرتبة الثانية بعد إسرائيل علي مستوي العالم في المعونات المدنية والعسكرية الأمريكية. ومن المشهور عن السادات قوله أن أمريكا تملك في يديها 99% من أوراق اللعبة في منطقتنا، لكن قوله هذا كان يهدف في الأساس إلي التأثير علي السياسة الأمريكية عن قرب، والاستيلاء علي جزء مُعتبر من الأوراق التي في يديها لاستغلالها في تحقيق أهداف كثيرة أخري منها عملية السلام مع إسرائيل. عكست اتفاقية السلام مع إسرائيل في مارس 1979 عناصر التحول في الفكر الاستراتيجي المصري المشار إليها آنفا. فقد نصت المُعاهدة علي الاعتراف المتبادل بين الدولتين، وإنهاء حالة الحرب التي استمرت لمدة ثلاثين عاما بينهما، وانسحاب إسرائيل من سيناء التي احتلتها في 1967، وبذلك صارت مصر أول دولة عربية تعترف بإسرائيل. وقد أدي هذا التحول إلي عاصفة عربية قُطعت علي أثرها العلاقات العربية مع مصر، ونقل مقر الجامعة العربية منها إلي تونس. وقد نصت المعاهدة علي حق إسرائيل المرور في قناة السويس والمضايق البحرية القريبة وخليج العقبة. كما اشتملت الاتفاقية علي خفض لمستوي السلاح في سيناء، وأيضا علي الجانب الآخر من الحدود الإسرائيلية. كما دعت إلي إقامة علاقات طبيعية بين الدولتين الأمر الذي لم يتحقق حتي الآن بسبب عدم التقدم في معالجة القضية الفلسطينية هذا التحول لم يكن ممكنا أن يتحقق في هذا الوقت القصير إلا من خلال تكثيف للطاقة والوقت وهو ما ميز سياسات السادات وأسلوبه في "الصدمات الكهربية"، وكان السادات يعرف أن أكثر من حوله ما زالوا علي الطريقة القديمة في التفكير وقد ظهر ذلك من استقالة أكثر من وزير خارجية خلال هذا المشوار. وفي الحقيقة لم يكن رجوع سيناء ممكنا بدون حرب أكتوبر، وبدون زيارة السادات لإسرائيل، وبعد ذلك طلق السادات أسلوب المؤتمرات التي تضم كل الناس كما كان الوضع في مؤتمر جينف. وساعده في ذلك اقتناع الرئيس كارتر بأسلوب المفاوضات المباشرة علي المستوي الثنائي والتي برزت فيها قدرات السادات علي التركيز في الهدف، والفصل ما بين المُهم والهامشي، وفوق كل ذلك سباقه الدائم مع الزمن ليقينه أن ثقافة المنطقة لن تسمح له بتحقيق هدفه بهذه الطريقة، ولن يهدأ للمعارضين بال قبل أن يخربوا الاتفاق ولا يتحقق الانسحاب من سيناء. وبسبب الاتفاقية وضع السادات كثيرا من معارضيه في السجن، فاغتالوه في السادس من أكتوبر، في نفس اليوم الذي بدأ فيه مشواره الطويل إلي 25 إبريل 1982 مرورا ب 26 مارس 1979، يوم توقيعه علي اتفاقية السلام مع إسرائيل في واشنطن.