العامل الغائب الذي لا يتكلم عنه أحد حتي الآن غياب حلفاء حماس من الصورة. فلو كانت حماس تعرف من قبل ثمن إطلاقها للصواريخ واستعدادها للدخول في معركة مُتكافئة تخرج منها إسرائيل جريحة ولن أقول مهزومة، لتداولت ذلك مع حلفائها لأخذ الرأي والمشورة من جهة، والحصول علي الدعم والمدد العسكري من جهة أخري. هناك كتابات كثيرة عن استراتيجية إسرائيل في هجومها الأخير علي قطاع غزة، والأهداف التي تسعي إلي تحقيقها، والتي تتراوح في هذه الكتابات بين القضاء علي حماس وإزالة وجودها السياسي والعسكري في غزة، وبين إضعافها فقط وإعطائها درسا يدفعها في المستقبل للتفكير أكثر من مرة قبل السير في اتجاه صدام مع إسرائيل. وفي المُقابل لا نجد كتابات تشرح وتحلل استراتيجية حماس في هذه المعركة، خاصة أنها من الناحية الشكلية علي الأقل قد قررت إنهاء التهدئة من جانبها، واستأنفت بالفعل إطلاق الصواريخ وطلقات الهاون ضد إسرائيل. وهناك في تاريخ حماس ما يدل علي أنها تعرف معني التخطيط الاستراتيجي، والتعبئة، واتخاذ القرارات الصعبة، وإقامة التحالفات الداخلية والخارجية، ومعني ذلك أنها لا تعيش يوما بيوم، ولكنها تمتلك نظرة مُستقبلية تعمل من أجلها، وأن توجهاتها الدينية لم تُغرقها في حالة من الدروشة، ولم تُنسها أن تَعقل دابتها قبل أن تتوكل علي الله. ولاشك أن حماس كان لها دور مُميز في الانتفاضة الفلسطينية الأولي، وكان لها تأثير مُدمر علي عملية أوسلو بتبنيها لفكرة العمليات الانتحارية، كما أنها نجحت بامتياز في القضاء علي مُنظمة فتح داخل غزة وطرد السلطة الفلسطينية منها. وبصرف النظر عن مدي ما قربته إنجازات حماس من هدف التحرير الكامل والقضاء علي إسرائيل، إلا أن السجل يحتوي علي أشياء تحققت _ اتفقنا معها أم لم نتفق _ وأن حماس تفهم ضرورة تحديد "الهدف"، وضرورة وجود "سبيل" مناسب للوصول إليه. وعندما نجحت حماس في أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، بدا أنها اتبعت خطوات منطقية نجحت من خلالها في أسر الجندي، وربما تنجح من خلال استبداله فك أسر عشرات أو مئات من الأسري الفلسطينيين. نعود إلي عملية غزة، ونلاحظ أن حماس قد فُوجئت بالهجوم الإسرائيلي وحجمه، وهو نفس اندهاش السيد حسن نصر الله من اتساع الهجوم الإسرائيلي علي لبنان في 2006، وقوله وقتها أنه لو علم بحجم هذا الرد وقوته، لما أقدم علي عملية قتل الجنود الإسرائيليين، والتي كانت في حد ذاتها من الناحية العسكرية البحتة عملا ناجحا. لقد قُتل لإسماعيل هنية _زعيم حماس في غزة -في الضربة الأولي نحو 270 جندي مُحترف، ودُمر له في غزة عشرات المباني الحكومية وغير الحكومية، بدون أن يصدر عنه رد مُزلزل بالصواريخ أو غيرها. هل مازال في جعبة هنية مفاجآت سوف يفصح عنها في الأيام القادمة؟ أم أنه سوف يعول علي الجهود الدولية والعربية لوقف إطلاق النار، وهي جهود ينقصها الحماس بسبب تصرفات حماس نفسها. هل حماس من البداية كانت تُخطط لاستفزاز إسرائيل وجرها إلي حرب شوارع في غزة وهي تعلم عن يقين أن إسرائيل لن تُقدم علي ذلك قبل أن تُدمر قدرات حماس القتالية. هذه النقطة تُذكرني بانتظار الناس لمعركة بغداد ضد الغزو الأمريكي، وقد سقطت بغداد قبل أن تحدث هذه المعركة التي كان صدام ينتظرها، فهل يتكرر ذلك في غزة. وفي ضوء ما حدث حتي الآن، وإذا لم يصدر من حماس مفاجآت كانت تُخبئها للحظة الأخيرة، فلن يكون أمامها إلا استعجال وقف إطلاق النار. وعليها في هذه الحالة أن تتحمل تلكؤ أمريكا في السماح بخروج هذا القرار من مجلس الأمن حتي تُحقق إسرائيل أهدافها. وفي تجربة لبنان لم تنجح إسرائيل في إسكات قدرة حزب الله علي إطلاق الصواريخ في وقت معقول فصدر قرار مجلس الأمن، وبعد صدوره أطلق حزب الله قصفة أخيرة للتأكيد علي استمرار امتلاكه للصواريخ وقدرته علي استخدامها في المستقبل إذا أراد، وسوف تُثبت الأيام مدي قُدرة حماس في ذلك السباق وسط أوضاع جد مختلفة علي المستويين الرسمي والشعبي غير المقتنع بالموقف الفلسطيني المُنقسم والمهترئ. العامل الغائب الذي لا يتكلم عنه أحد حتي الآن غياب حلفاء حماس من الصورة. فلو كانت حماس تعرف من قبل ثمن إطلاقها للصواريخ واستعدادها للدخول في معركة مُتكافئة تخرج منها إسرائيل جريحة ولن أقول مهزومة، لتداولت ذلك مع حلفائها لأخذ الرأي والمشورة من جهة، والحصول علي الدعم والمدد العسكري من جهة أخري. لقد دار سفراء ووزراء إسرائيل علي بلاد كثيرة قبل أن تقرر إسرائيل مُنازلة حماس ، وذلك لاقتناع المسئولين هناك بأهمية الاستماع إلي الأصداء الخارجية المختلفة قبل أن يدخلوا المعركة. هل وعدت سوريا أو إيران مثلا باستخدام صواريخها ذات العيار الكبير ضد إسرائيل، أو علي الأقل التهديد بذلك لمساندة حماس في قرارها كسر وقف إطلاق النار. وإذا كانت مصر مُقيدة باتفاقية السلام كما يقولون، وكما أنها من الأصل ليست علي وفاق مع حماس فلماذا لا يطالب الناس سوريا فعل شئ وهي تحتضن خالد مشعل في دمشق، ولماذا لم تنتهز إيران الفرصة وتثبت أنها تساند أصدقاءها وقت العمل الحقيقي. عندما تقرأ الصحف الإسرائيلية وتزور مواقع مراكز الدراسات هناك تجد كل الأفكار مطروحة قبل العملية الحالية بوقت كبير، فهل جلس هنية مع رؤساء أركانه وتبادلوا الرأي وسجلوا علي الورق أنهم لا يملكون دفاعا جويا، ولا يملكون طائرات، ولا يملكون مدرعات، وأن الخطة في النهاية سوف تقوم علي كذا وكذا، وأن خلفاءنا قد وعدوا بالمساندة في هذه النقطة، وأن الشارع العربي سوف يشعل البلاد العربية بالمظاهرات الأمر الذي سوف يؤدي إلي كذا وكذا. ومن الملاحظ أن حماس موجودة أيضا في الضفة الغربية لكن لم يظهر أن هناك تنسيقا ما قد حدث مع الرئاسة الأم في غزة لعمل شئ ما لدعم العمليات الجارية هناك. يتبقي بعد كل ذلك احتمال تخطيط حماس لعمليات إرهابية ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية في الخارج وهو احتمال وارد من خلال أصدقاء حماس أو بواسطة جماعات إرهابية محلية انتهازا لفرصة أجواء مُعبأة بمشاعر عدائية ضد إسرائيل وأمريكا. وقد تمتد تلك العمليات إلي بلاد مثل مصر لمواقفها من حماس ومن قبل ضد حزب الله. وفي كل الأحوال لم تعد مثل هذه العمليات تُؤثر كما كانت تفعل من قبل. كما أنها سوف تخصم كثيرا من صورة حماس ومن الرصيد القليل المتوفر لها من زاوية أنها جاءت من خلال خيار ديموقراطي، وأن قصص الفساد لم تمس قادتها كما مست فتح والسلطة الفلسطينية. هناك نقطة أخيرة شائكة بالنسبة لحماس لكنها قد تقدم لها مخرجا من هذه الأزمة آخذين في الاعتبار أن إسرائيل برغم تفوقها تبحث هي أيضا عن مخرج. فإسرائيل لا تريد العودة إلي احتلال غزة، ولا هي تريد أن تتركها لحماس في أوضاعها الحالية فتعود مرة أخري إلي إطلاق الصواريخ. هناك قول قديم يتردد أن حماس من الأصل من صُنع إسرائيل، وهو قول لا أصدقه بمعناه الدارج البسيط، فهي بالتأكيد لم تكن عميلة لإسرائيل، ولكنها كانت خيارا لشق الصف الفلسطيني كما فعل الرئيس السادات مع الإخوان المسلمين ضد الشيوعيين. ويمكن القول بدرجة يقين معقولة أن إسرائيل تُفضل بقاء حماس في غزة ولا تريد اقتلاعها، لكن تُريدها مُسالمة، وأن تكون مُستعدة لإقامة حوار معها. إن ما يحدث الآن علي الجانب الفلسطيني يفتقد إلي السياسة الحقيقة، ويضيع الطاقة في شعارات أكثر من سياسات، ويفتقد العقل الجامع المُخطط القادر علي استيعاب كل التيارات، وتحديد الأولويات. ولن يتحقق ذلك إلا بإجراء حوارين أساسيين. الأول حوار داخلي فلسطيني جاد وتاريخي يعلي المصالح علي الخسائر، ويعيد تعريف الأولويات وتكييف القضية الفلسطينية كلها؛ والحوار الثاني بين كل الفلسطينيين من جهة وإسرائيل وشعب إسرائيل من جهة أخري، من أجل الوصول إلي مخرج لعنق الزجاجة الذي يعيشون فيه منذ أكثر من نصف قرن، والعثور علي حل شجاع لقضيتهم جميعا يتقاسمون فيه الفوز والخسارة.