يأمل الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، في فتح صفحة جديدة مع العالم عندما يتولي مهامه بصورة دستورية في العشرين من الشهر المقبل، وذلك بعد أن تضررت صورة الولاياتالمتحدة في الخارج كثيرًا بسبب سياسات الرئيس جورج بوش التي اعتمدت علي عسكرة السياسة الخارجية عبر اعتمادها علي الخيار العسكري بدلاً من القوة الناعمة في معالجة الأزمات علي الصعيد الدولي. وفي معرض بحث هذه القضية، صدرت دراستان في الفترة الأخيرة. الأولي عن مركز السياسة العالمية Center for International Policy منذ شهرين بعنوان "تغيير المسار: مقترحات تغيير تسليح السياسة الخارجية الأمريكية" Changing Course: Proposals To Reverse The Militarization of U.S. Foreign policy تتناول كيفية تحويل دفة السياسة الخارجية وتخليصها من الطابع الهجومي الذي طغي عليها. أما الثانية فهي صادرة عن الأكاديمية الأمريكية للدبلوماسية American Academy of Diplomacy بعنوان "ميزانية الشئون الخارجية للمستقبل: إصلاح خدمة مجوفة" Foreign Affairs Budget Of The Future: Fixing A Hollow Service. وفي المجمل فإن التوصيات التي خرجت بها الدراستان تتشابه إلي حد كبير فكلاهما يحذر من مخاطر عدم الالتفات إلي الوسائل الدبلوماسية الأمريكية. وينبهان لضرورة تفعيل الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة عبر وزارة الخارجية الأمريكية والدبلوماسية العامة والمساعدات الاقتصادية وعمليات إعادة البناء وعمليات التدريب. البنتاجون يحصد الميزانية الأكبر والخارجية تجمع الفتات تظهر مراجعة ميزانيتي وزارتي الدفاع والخارجية حجم الفجوة بينهما. في الوقت الذي تم فيه تخصيص أكثر من 572 مليار دولار لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) للعام المالي 2009، بخلاف 15 مليار دولار شهريا لحربي العراق وأفغانستان، لم تتعد ميزانية وزارة الخارجية 40 مليار دولار (التي تقترب من ميزانية الأجهزة المخابراتية وحدها). بعبارة أخري تبلغ الميزانية العسكرية ما يقرب من 13 أضعاف الميزانية الدبلوماسية. وهو ما يعكس حجم اهتمام إدارة المحافظين الجدد بالخيار العسكري علي حساب الدبلوماسي. ولا يعد هذا الوضع مغايرًا لما كان عليه من قبل، فالمقارنة التاريخية بين ميزانيتي الوزارتين تحسم دائمًا لصالح وزارة الدفاع وذلك منذ عام 1947، حيث لم تصل ميزانية الخارجية منذ ذلك التاريخ إلي حد 60 مليار دولار، بل إنها انخفضت لما هو دون ذلك، بينما بلغت ميزانية وزارة الدفاع أدني مستوياتها في هذه الفترة (أواخر الأربعينيات) حيث لم تتعد 150 مليار دولار لترتفع إلي مستويات غير مسبوقة في تاريخ أمريكا بعد ذلك وأعلاها ميزانية البنتاجون لعام 2009. وبالرغم من أن ميزانية وزارة الدفاع تعرضت لتقلبات عديدة ما بين ارتفاع وانخفاض طوال العقود الماضية وخاصة في فترة الأربعينيات والخمسينيات وأثناء الحرب الباردة التي كان متوسط ميزانية البنتاجون خلالها 374,9 مليار دولار والحرب علي الإرهاب، إلا أنها في جميع الحالات تتفوق كثيرًا علي ميزانية الخارجية الفقيرة أمامها حيث يبدو حجم الفجوة كبيرًا بينهما. وإمعانًا في دعم القوات المسلحة، طالب البنتاجون مؤخرًا بزيادة مخصصات وزارة الدفاع ب 450 مليار دولار إضافية خلال الخمسة أعوام المقبلة تبدأ بزيادة 10% علي ميزانيتها الأساسية عام 2010 لتصل إلي حوالي 600 مليار دولار. أما وزارة الخارجية فلم تتجاوز الزيادة المطلوبة في ميزانيتها 3,3 مليار دولار. ونتيجة للانخفاض في الميزانية الدبلوماسية تراجعت الحركة الدبلوماسية الأمريكية وبرامج الدعم والمساعدة الخارجية التي تقود قاطرة السياسة الخارجية بشكل كبير، وأصبحت تعاني من نقص خطير في الكوادر البشرية والنشاط القنصلي وبرامج التنمية والدبلوماسية العامة بعد أن وضع البيت الأبيض البنتاجون علي رأس سلم صناعة القرار المتعلق بشئون الأمن القومي الأمريكي. وهو ما اعترف به وزير الدفاع الأمريكي "روبرت جيتس" في خطاب له في نوفمبر 2007 بأن تمويل برامج الشئون الخارجية غير العسكرية لا يزال ضئيلاً مقارنة بحجم الإنفاق علي الجيش الأمريكي. وقال إنه من الضروري زيادة الميزانيات المخصصة للأدوات المدنية للأمن القومي. نتائج عسكرة السياسة الخارجية وكان لتلك السياسة التي تعتمد بصورة أكبر علي القوة العسكرية علي حساب العمل الدبلوماسي كثيرة من الآثار السلبية التي لم تقتصر علي تراجع مكانة وصورة الولاياتالمتحدة عالميا، فكثيرون خارج واشنطن ينظرون إلي الولاياتالمتحدة علي أنها قوة استعمارية لا تقيم وزنا للقانون الدولي بعد أن كانت تعتبر أنموذجًا رائدًا للعالم أجمع في الحرية. هذا فضلاً عن الخسائر علي الداخل الأمريكي لاسيما الاقتصادية ناهيك عن البشرية. فخلال فترتي الرئيس بوش زادت ميزانية الدفاع بصورة رهيبة تقترب من المستوي الذي كانت عليه إبان الحرب العالمية الثانية. كما أضرت هذه السياسة العدوانية التي تقوم علي مبدأ الهجوم وليس الدفاع، بالمصالح القومية الأمريكية حيث غرق الجيش الأمريكي في المستنقع العراقي ولم ينعم الأمريكيون بالأمن المفترض أن يشعروا به، كما أعلن أقطاب المحافظين الجدد الذين تبنوا النهج العسكري والقوة الإكراهية علي الصعيد الخارجي. ولا تقتصر آثار سياسة عسكرة السياسة الخارجية علي الصعيد الخارجي فقط بل كان لها جملة من الآثار علي الداخل الأمريكي لاسيما القطاع الاقتصادي الذي يحمل كثيرًا من أعباء تلك السياسة القائمة علي العسكرة. وتتزايد تلك الأزمة الداخلية لما أشار له تحليل لمؤسسة "ستيجلتز أند بيلمز" Stiglitz and Bilmes إلي أن التكلفة الإجمالية لحرب العراق ستصل إلي 3 تريليون دولار _ وهذه أرقام محافظة حيث يتوقع كثيرون تكلفة أكثر من هذا الرقم بكثير - شاملة التكاليف الخفية والتكاليف علي المدي الطويل. تقويض عدوانية البنتاجون ولهذا أوصت الدراسة الأولي التي وضعها الباحث دونالد إف هير Donald F. Herr بالمعهد، والذي عمل في وزارة الخارجية لمدة عشر سنوات وأمضي أكثر من ربع قرن محللاً سياسيا رفيع المستوي في مكتب وزير الدفاع منذ عام 1980 _ 2006، الرئيس الأمريكي الجديد باعتماد سياسة خارجية عالمية وليست "إمبريالية" تقوض دور وزارة الدفاع. وتبدأ هذه السياسة حسب الباحث بسحب القوات الأمريكية من العراق والاعتماد علي أجهزة المخابرات وأجهزة فرض القانون لمواجهة الأخطار الإرهابية وتحويل الإمكانيات العسكرية من العمليات القتالية إلي عمليات حفظ الأمن والاستقرار. وتقترح الدراسة علي وزير الدفاع القادم "روبرت جيتس" خفض ميزانية البنتاجون بنسبة 20% علي مدار الأربع سنوات القادمة، والتي يمكن اقتطاعها من الميزانية المخصصة للحرب الأمريكية في العراق، وبرامج الصواريخ الباليستية الدفاعية. وتقليل دور البنتاجون القيادي في الحرب علي الإرهاب فضلاً عن الاستعانة بقوة قتالية صغيرة الحجم لمواجهة أية أخطار مستقبلية. وفي مقابل ذلك، تدعو الدراسة إلي إعادة بناء وزارة الخارجية أو الحصن الدبلوماسي الذي انهار بسبب الإنفاق العسكري المتزايد، وذلك عن طريق زيادة أعداد الدبلوماسيين في الخارج والاهتمام بمهارات الكادر الدبلوماسي والتوسع في عمليات تدريبهم وإكسابهم لغات مختلفة ومضاعفة ميزانيات مساعدات التنمية لمكافحة الفقر والاهتمام بالدبلوماسية العامة. تقوية الدبلوماسية العامة والمعونة الأمريكية تشير الدراسة إلي أن ميزانية الخارجية تقلصت كثيرًا في التسعينيات، مستشهدة بذلك بتوقف الوكالة الأمريكية للإعلام United States Information Agency (USIA) المهتمة بشئون الدبلوماسية العامة، وخفض أعداد الموظفين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ بسبب نقص التمويل وذلك طوال العقود الثلاثة الماضية حيث انخفضت من 4300 موظف عام 1975 إلي 2200 عام 2007. ولكنها تشير إلي أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كانت تحظي بوجود أكبر في الخارج إبان الحرب الباردة مما هي عليه اليوم. فالقائمون علي الوكالة يشكلون أحد الأذرع القوية للقوة الناعمة التي تملكها الإدارة الأمريكية، فوكالة التنمية هي الوجه الأكثر وضوحًا لواشنطن في عديدٍ من دول العالم ويمتد تأثيرها إلي داخل المجتمع المدني الذي تتفاعل معه يوميا. فيما يميل السفراء والملحقون العسكريون التابعون لوزارتي الخارجية والدفاع إلي البقاء في عواصم العالم. وعلي الرغم من أن ميزانية وزارة الخارجية زادت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن معظم هذه الزيادات ذهبت لتدعم وزارة الدفاع في حرب العراق والحرب علي الإرهاب حتي أن الميزانية المطلوبة للخارجية للعام الماضي (2007- 2008) كانت 36 مليار دولار فقط، وهي أقل من الميزانية التي تخصصها وزارة الدفاع لبرنامج الرعاية الصحية للجنود. ولهذا تُوصي الدراسة الثانية التي وضعها 14 دبلوماسيا سابقًا في الأكاديمية الأمريكية للدبلوماسية بالإسراع في إعادة بناء الكادر الدبلوماسي الأمريكي في الخارج، وزيادة عدد الدبلوماسيين والمتخصصين في عمليات التنمية بحوالي النصف خلال الخمسة أعوام المقبلة بتكلفة تصل إلي 3 مليارات دولار إضافية بخلاف الميزانية المحددة لذلك بالفعل. واقترحت الدراسة تحويل الميزانية المخصصة للبنتاجون المتعلقة ببرامج المساعدة الأمنية والتي تصل إلي 800 مليون دولار إلي وزارة الخارجية، كما توصي بزيادة عدد الموظفين الدبلوماسيين بنحو 4735 ألفًا في الفترة من 2010-2014 أي أن يصل حجم النمو إلي 46% متزامنًا مع زيادة عمليات التدريب وإعداد الموظفين الدبلوماسيين وهو ما يتطلب زيادة ملياري دولار سنويا في الميزانية. وخلصت الدراسة إلي أهمية تعزيز العلاقات الدبلوماسية والقنصلية بين الولاياتالمتحدة ودول العالم ومع المنظمات الدولية وتوسيع برامج الدبلوماسية العامة خاصة عمليات التبادل الثقافي والأكاديمي. فضلاً عن زيادة التمويل الذي يمثل أزمة جديدة في القلعة الدبلوماسية الأمريكية حيث تحتاج وزارة الخارجية إلي 125 مليون دولار إضافي بدءًا من عام 2010 و75 مليون دولار سنويا بعد ذلك كل عام لكي يتمكن السفراء الأمريكيون من التعامل مع الطوارئ الإنسانية والسياسية التي تساعد في بعض الأحيان علي تحسين وجه أمريكا الذي بات قبيحًا. حنان سليمان