الأمر المؤكد أن الأستاذ ممدوح الليثي لم يكن مدركاً، وهو يوجه لي الدعوة لحضور حفل افتتاح، أو بالأحري إعادة افتتاح، سينما حديقة النصر الصيفي، أنه سيثير بداخلي الكثير من الشجن والشجون والذكريات التي تفجرت بمجرد التنويه إلي اسم هذه السينما التي كانت تمثل بالنسبة لي جزءاً من شبابي، وقت أن كنت أسكن علي مقربة منها، وتحديداً في فندق مخصص لأبناء أسوان في القاهرة، كان يعتبره البعض، علي سبيل التندر، سفارة أسوان لدي جمهورية مصر العربية! كان هذا في السبعينيات، وكنا، كطلبة قادتهم الظروف للدراسة في الجامعات المختلفة للعاصمة، نجد في سينما "حديقة النصر" سلوانا ووسيلتنا الوحيدة للمتعة والترفيه عن أنفسنا يوم الخميس من كل أسبوع، وعلي الرغم من أننا لم نكن بعيدين، أبداً، عن شارعي عماد الدين وسليمان باشا، بكل مافيهما من دور عرض شهيرة يشار إليها بالبنان، إلا أننا كنا نجد راحتنا في هذه السينما بمقاعدها المصنوعة من خشب "البامبو"، والنسمات اللطيفة التي كانت تهب علينا بعد الساعة التاسعة فتخفف عنا لهيب الحرارة، الناتجة عن قرب موعد الامتحانات، وقيظ الصيف الذي كان يهبط علينا برداً وسلامة مقارنة بما كان يحدث لأهلينا في أسوان في مثل هذا التوقيت من كل عام. أما برنامج السينما فلم يكن مزعجاً كبقية دور العرض التي من هذا النوع، بل كان يحمل تقديراً غير مسبوق للجمهور الذي يرتاد "حديقة النصر"، حتي يخيل إليك أن عقداً غير مكتوب قد تم توقيعه بين إدارة "الحديقة" وزوارها علي احترام طقوس "الفرجة"؛فالأفلام التي يعرضها البرنامج لا تتجاوز الفيلمين بأي حال،وكل فيلم منهما يعرض كاملاً، حسب الأعراف والتقاليد المرعية في دور عرض الدرجة الأولي، وليس كما يحدث في سينما "علي بابا" أو دور العرض التي علي شاكلتها تلك التي تعرض أربعة أفلام في "بروجرام" واحد، وغالباً ما تكون المحصلة النهائية فيلماً ونصف علي أكثر تقدير. غير أن الأهم من كل هذا أن روح "الحديقة" كانت تنعكس علي الجمهور بدرجة أكسبته نوعاً من الوقار والرصانة بحيث لم يكن لأحدهم أن يتورط في الترويج لفوضي أو التسبب في إحداث شغب بل كانت السمة الغالبة أن "الحديقة" تحولت إلي مكان "للعائلة القاهرية" تتخلص فيه من همومها، التي لم تكن شديدة الوطأة كما هو الحال اليوم، وتنعم فيه بنوع جميل من الترفيه الأخاذ. كان هذا قبل أن نستيقظ يوماً علي "حديقة النصر" وقد أغلقت أبوابها الحديدية التي تقع في نهاية الممر الطويل المؤدي إلي شباك التذاكر، وسرعان ما خيم نبات اللبلاب، وتشابكت أغصانه كخيوط العنكبوت، علي المكان ويوماً بعد الآخر غطت علي "أفيشات" آخر فيلمين عرضتهما الحديقة، ولم تترك مكاناً للعرض القادم الذي اختفي ولم يأت، بعدما انتقلت عدوي القبح، التي أصابت القاهرة كلها، إلي "الحديقة"، وكان طبيعياً أن يتواري معها اسم "النصر" في زمن كثرت فيه الهزائم! هكذا تداعي شريط الذكريات في اللحظة التي تلقيت فيها الدعوة لحضور حفل إعادة افتتاح سينما "حديقة النصر"، التي أسجل تقديري وامتناني للمحاسب سيد حلمي رئيس الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، التي حصلت علي حق استغلالها، والأستاذ ممدوح الليثي رئيس جهاز السينما، القائم علي تشغيلها، لاحتفاظهما باسمها الأصلي من دون تغيير أو حتي تعديل، وإن وجدت لهما العذر في استبدال مقاعد "البامبو" بأخري خشبية تم تثبيتها في الأرض، نظراً للكلفة الباهظة لمقاعد "البامبو"، وعدم ملاءمتها لجمهور هذا الزمان الذي تغيرت طقوسه واختلفت أمزجته، وأكبر الظن أنه لن يعود كما كان في العهد التليد. في كل الأحوال عادت سينما "حديقة النصر"، بعدما نزح عنها "الاحتلال اللبلابي"، لتفتح أبوابها،وتضيء أنوارها، وتتصدر واجهتها "أفيشات" الأفلام الجديدة في مشهد تندي له المشاعر المُرهفة، وتطرب له قلوب المحبين للسينما، ممن هالهم وأنا منهم أن معالمها لم تتغير، والمباني الشاهقة من حولها لم تلتهمها، ولفرط فرحتي بعودتها غضضت الطرف عن رداءة ظروف العرض، من سوء واضح للصوت، وظلمة غطت الشاشة حتي أخفت معالم فيلم الافتتاح أو "العودة"، الذي كان بالمناسبة "بلطية العايمة"، وأحالت أبطاله إلي أطياف، قبل أن يطمئنني الأستاذ ممدوح الليثي بأنه تم تدارك هذه العيوب الفادحة في وقت لاحق، وتغيرت "الحالة" إلي النقيض لكنه لم يبرر لي، ربما لأنني لم أتذكر أن أسأله، السر وراء اختيار هذا التوقيت بالتحديد لتدشين عودة سينما "حديقة النصر" (الصيفي) مع دخول (الشتاء)، بكل توابعه التي ليس أقلها هطول الأمطار الغزيرة علي الجمهور الذي ليس بينه وبين السماء حاجب أو ستار، وهو مايعني أنه لن يمضي سوي وقت قصير، وبعده تعود "الحديقة" إلي إغلاق أبوابها من جديد بكل مايثيره هذا من أسي مؤقت. أخيراً.. لقد فوجئت بالغياب المخجل لكل فناني مصر، ومبدعيها، عن حفل إعادة افتتاح سينما "حديقة النصر" الذي كان يمكن أن يتحول إلي عيد حقيقي للسينمائيين في أي بلد متحضر، وربما كان الحال سيتغير لو أنهم تلقوا الدعوة من "شيخ" لحضور حفل "طهور" ابنه أو "أميرة" ليغنوا في حفل "ختان" ابنتها، أما السينما فلا تعنيهم، لأن علاقتهم بها، خصوصاً النجوم منهم، تنحصر في كونهم ينظرون إليها باعتبارها "البقرة الحلوب" التي لا يفعلون شيئاَ سوي استنزافها ومص دمها، حتي آخر قطرة لبن من ضرعها! مجدي الطيب