هناك شواهد وعلامات تدل علي أن منطقة الشرق مقبلة علي مرحلة تحول وتغيير تضع نهاية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر الفرق بين زعيم وزعيم آخر هو في قدرته علي الحلم والتفكير في تغيير الحال والسفر إلي المستقبل. نابليون جاء إلي مصر - مثل ساركوزي الآن - وهو مشغول بجانب المجد العسكري بتغيير حال هذه المنطقة القديمة والمهمة من العالم. فأحضر معه العلماء وماكينة الطباعة وفكرة القانون والدولة والحكم في قالبها الغربي الجديد. لم يُحقق نابليون الكثير في فترة وجوده في مصر، لكنه غرس بذرة وترك مصيرها بعد ذلك لتصاريف الزمن والأحداث. عبد الناصر أيضا كان يحمل في داخله حلم الوطن العربي، والوحدة العربية، والدوائر الثلاث المتقاطعة العربية والإسلامية الإفريقية، وسبح من أجل فكرته ضد تيارات عاتية، وانتصر وانهزم، لكن الحلم بقي طافيا فوق سطح الأمواج، وبرغم كل شئ تغيرت مصر والمنطقة وربما العالم بفضل حلمه بصرف النظر عن طبيعة النتائج. ويحضرني أيضا الحلم الساداتي، ورؤيته النافذة، ويقينه في أن مستقبل المنطقة مربوط بحلم السلام، والحضارة الغربية، والقوة الأمريكية المتربعة علي عرش العالم بعد انتصارها في أطول معركة أيديولوجية شرسة انتصرت فيها الفكرة بعيدا عن ميدان القتال حتي أن البعض تحدث عن نهاية التاريخ. وهناك أيضا رجل مثل شيمون بيريز، قدم فكرة الشرق الأوسط الجديد، ورجل مثل الرئيس بوش الابن وحلمه في زعامة أمريكية منفردة لعالم مختلف وشرق أوسط كبير؛ وبعد شهور قليلة سوف يترك الرجل مقعده في البيت الأبيض تاركا خلفه كثيرا من الضحايا ولكن أيضا كثيرا من التحول والتغيير. قد أكون مغامرا إذا قلت إن هناك شواهد وعلامات تدل علي أن منطقة الشرق مقبلة علي مرحلة تحول وتغيير تضع نهاية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر، ومرحلة ما بعد غزو العراق، في إطار تصور إقليمي متجانس ومتفاعل مع الهياكل العولمية التي تبلورت خلال العشر سنوات الماضية منذ حرب كوسوفو والتحولات الكبري التي غيرت شرق أوروبا والبلقان. وربما كان تقرير بيكر-هاملتون (وكلا الرجلين عليم بدرجة امتياز بشئون الشرق الأوسط) بداية التحول الفكري للمرحلة الجديدة، حيث وضع التقرير برغم أنه عن العراق تصورا لنهاية واضحة للتدخل الأمريكي العسكري ثم انطلق بعد ذلك في إطار الإقليم داعيا للحوار مع سوريا وإيران، وحل القضية الفلسطينية، والتعامل مع أوجاع الإقليم نحو مستقبل لا ترسمه الولاياتالمتحدة بمفردها ولكن بمساهمة دوله، وكل من له مصلحة في استقرار هذه المنطقة من العالم. وخلال الشهور الثلاثة الماضية حدثت تحركات إقليمية من الصعب تجاهلها. فهناك مفاوضات سورية-إسرائيلية بوساطة تركية بدأت بفترة جس نبض، ثم تطورت علي مستوي التمثيل والموضوعات حتي وصلت إلي وجود بشار الأسد وأولمرت علي مائدة واحدة في باريس بمناسبة تدشين الاتحاد من أجل المتوسط. وسمعنا بشار الأسد يقول إن السلام مع إسرائيل سوف يتحقق خلال ستة أشهر إلي سنتين. ورأينا أيضا سوريا تتوسط بين حزب الله وإسرائيل في أكبر عملية تبادل للأسري وجثث القتلي من الجانبين. ثم ما جري في الدوحة، وفي بيروت، وانتخاب رئيس للبنان بعد فترة يأس طويلة وصدام عسكري بين الأغلبية والأقلية وعلي رأسها حزب الله. كل ذلك حدث في إطار وساطة قطرية ورعاية مصرية سعودية والجميع يقول "لا يَحُك ظهرك مثل ظُفرك، فتَولي أنت زمام أمرك". وهناك أيضا حوار بين حماس وإسرائيل بوساطة مصرية أدي إلي اتفاق التهدئة، كما أن العلاقات بين السلطة الفلسطينية وحماس بدأت في التحرك في اتجاه المصالحة وجبر الشرخ الفلسطيني حتي أن هنية كشف عن نية حماس في تقديم تنازلات مذهلة. فمن المؤكد أن تماسك الجبهة الفلسطينية الداخلية ضروري لتقدم عملية السلام علي المسار الفلسطيني الإسرائيلي الذي يعتبره البعض المحرك الرئيسي للتعاون الإقليمي، وبدون حدوث تقدم في هذه الجبهة لن يحدث تقدم مماثل علي باقي الجبهات. إن عدد الأطراف الإقليميين والدوليين المرتبطين بالقضية الفلسطينية كبير بدرجة مذهلة، من أول الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة إلي ساركوزي إلي أحمدي نجاد. ومجرد حدوث تقدم ولو بسيط يحدث تقدم أكبر منه في باقي بؤر النزاع، وسوف ينتج من كل ذلك أوضاع نفسية مواتية للعمل الإقليمي بمستوياته المختلفة. وربما كانت ومازالت إيران إحدي المعضلات الإقليمية الكبري في الشرق الأوسط. فاختيارات معظم دول الشرق الأوسط في جانب وإيران في جانب آخر. إيران أيضا لها موقف في لبنان، ولها علاقات قوية مع حماس، وفوق كل ذلك هي حليفة لسوريا. وإيران بالإضافة إلي ما سبق هي الدولة الوحيدة علي مستوي الإقليم التي تسعي إلي امتلاك تكنولوجيا نووية متقدمة بمستوياتها المختلفة وما نتج عن ذلك من شكوك أمنية علي مستوي الإقليم والعالم. والجديد الآن انضمام الولاياتالمتحدة إلي مائدة المفاوضات مع إيران بجانب دول المجلس الأمن وألمانيا، وهو تغير نوعي كبير، وهناك تفكير في فتح مكتب تمثيل أمريكي في طهران بعد غياب هذا التمثيل منذ اندلاع الثورة الإيرانية. وليس معني ذلك أن العلاقات الإيرانية- الأمريكية قد أصبحت سمنا علي عسل، ولكن حقيقة جلوس طهران مع واشنطن علي طاولة واحدة يعني أن كل الأوراق والأفكار القديمة والحديثة سوف تكون مطروحة للحوار. ومن جانب آخر يكون الغرب بكل دوله المهمة قد "عمل اللي عليه" ويكون بعد ذلك لكل حادث حديث. ربما يكون موضوع "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي تم تدشينه في باريس في 13 يوليو 2008 هو الإضافة الجديدة لموضوع التعاون والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط. ومن الناحية الشكلية البحتة يُقدم الاتحاد من أجل المتوسط أعلي مستوي مؤسسي لهيكل إقليمي في المنطقة مقارنة بالمؤسسات الإقليمية الأخري العاملة في الشرق الأوسط (الجامعة العربية، عملية برشلونة، مجلس التعاون الخليجي،..إلخ). فنحن أمام "اتحاد"، له "رئيسان" لفترة محددة، وملتزم بقائمة مشاريع إقليمية يجب تنفيذها، وفوق كل ذلك حماس الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يتحرك مثل النحلة من مكان إلي آخر وله رؤية إقليمية متوسطية وفكر أمني عالمي وأوروبي وإقليمي علي درجة عالية من التطور. يتبقي الآن دور الجانب العربي، وهو لسوء الحظ خامل متردد مفتقد للمبادرة والحلم، تعوقه أفكار الماضي وشعاراته البالية، برغم أن عدد دوله في منظومة الشرق الأوسط تمثل نصيب الأسد، فالشرق الأوسط بتعريفه التقليدي يتكون من كل الدول العربية مضافا إليها إسرائيل وتركيا وإيران. وعلي الجامعة العربية أن تبدأ أولا بالاعتراف بهذا المفهوم، وأن تعطي الدول الثلاث دور المراقب داخل الجامعة العربية، ويجب أن نعترف أن عمرو موسي برغم تشدده في موضوع "التطبيع المجاني" إلا أنه مدرك بأهمية الاتحاد الأوروبي وعملية برشلونة، ودائم الحضور في منتدياتها، كما أن منبر الجامعة العربية في المقابل يتزاحم عليه القادة الأوروبيون مع كل مؤتمر عربي للقمة. وأقترح عليه أن يدعو إلي مؤتمر علي المستوي الأكاديمي والسياسي لما يعنيه الشرق الأوسط بالنسبة للجامعة العربية والنظام العربي، وهل هو مكمل أم منافس، وهل هو مصدر قلاقل أم استقرار. والواجب الآخر علي الجانب العربي هو الاقتراب من إيران وإطلاق حوار معها. ومن الغريب أننا لم نفعل ذلك مع أن الآخرين يفعلونه. وهناك أسئلة كثيرة يعتقد البعض أن الإجابات عليها بالنسبة لإيران حاضرة وواضحة لكن الحقيقة ليست كذلك. فالعالم العربي يطرح السلام علي إسرائيل في حين تطرح إيران شعار محوها من الخريطة. أليس ذلك إشكالا يتطلب حوارا مهما مع إيران بشأنه حتي لا نجد أنفسنا يوما في مواجهة مع إيران وواقفين بجانب إسرائيل. ويضاف إلي ذلك برنامج إيران النووي، والعلاقات مع الولاياتالمتحدة، والنشاط الإيراني السياسي والأيديولوجي داخل الدول العربية، ووقوفها أمام مشاريع السلام، والعلاقات الاقتصادية والثقافية، وما الذي تعنيه إيران بدورها الإقليمي. إننا يجب أن نقوم بهذه المبادرة مع إيران ليس من أجلها فحسب ولكن أيضا من أجل مستقبل الشرق الأوسط.