الشرفة تطل علي مسجد "ابي الجود" وهو مسجد مشهور في اسيوط كان في تلك الفترة تابعا للاخوان المسلمين وكنا - مثل سكان الحي كله - علي موعد كل ثلاثاء مع يوم مفتوح بالمسجد. تستحق هذه العمارة أن تكون مكانا لرواية أو سيناريو لفيلم سينمائي.. افكر في ذلك بالفعل. تقع العمارة علي ناصية شارعين بأحد الأحياء الراقية في مدينة اسيوطجنوب مصر.. احرص حتي الآن علي التطلع اليها عبر نافذة القطار كلما زرت اسيوط.. اجدها كما هي.. وكأن عشرين عاما مضت لم تكن كافية لتغير من ملامحها شيئا. هنا - في عمارة عم فخري - قضيت ثلاث سنوات من اصل اربع هي فترة دراستي بكلية الحقوق جامعة اسيوط.. اربع شقق تحتل الدورين الرابع والخامس كان فخري يؤجرها لطلاب الجامعة وانا واحد منهم. مازلت اذكر ملامح الرجل.. بشرته السمراء.. بدين الي حد ما التجاعيد الواضحة توحي بانه تخطي الستين من عمره.. أول كل شهر يتحامل العجوز المسيحي علي نفسه ويصعد السلالم وبصحبته صبي صغير يحمل كشكولا يسجل فيه الحسابات.. يدخل الي الشقة الأولي ثم الثانية.. يصعد الي الدور الخامس.. تستغرق تلك الرحلة قرابة الساعة.. يعود عم فخري بعدها الي شقته بالدور الثالث.. تظل صفحات الكشكول بيضاء ناصعة ويفشل صبيه في تسجيل أي حسابات في صفحة الايرادات.. بينما تشهد صفحة المصروفات تطورا ملحوظا حيث يقترض كل منا من عم فخري ما يحتاجه.. مبالغ تبدأ من خمسة جنيهات وقد تصل الي عشرين جنيها. عم فخري - قدس الله روحه - علي هذه الحال كان بالنسبة لنا "زبون لقطة" حيث كنا نحصل من ابائنا علي قيمة الايجار فنشتري بها سجائر وندخل السينما.. لكن فيما بعد توطدت العلاقة بيننا وتطورت الي علاقة ابوية نستخدم تليفون منزله.. ونستمتع بالدردشة معه.. احيانا يدعونا الي العشاء.. واحيانا اخري نتناول الطعام عنده دون دعوة!! هذه ليست كل الحكاية.. ففي الدور الرابع تسكن مجموعة من اصدقائنا يشكلون خلية شيوعية.. بعضهم ينتمي رسميا الي حزب التجمع والبعض الآخر يمارس نشاطه دون اعلان.. كان ذلك في اواخر الثمانينيات أي في عز سطوة الجماعات الدينية في اسيوط.. جامعتها وشوارعها. اذكر ان زملاءنا الشيوعيين نظموا معرضا لمجلات الحائط بالجامعة عن القضية الفلسطينية فقام طلاب الجماعة الاسلامية بتحطيم المعرض! ومحور الخلاف بين الجانبين ان اليسار يرفع شعار "فلسطين عربية" اما التيار الديني فيري ان "فلسطين اسلامية.. لا شرقية ولا غربية". لم اقتنع بالطبع بأن الكذب يمكن أن يكون وسيلة مشروعة حتي لو كانت الغاية سامية وإلا فلماذا يسخر الإخوان من بيانات تحطيم سلاح الجو الإسرائيلي في حرب 1967 والتي كانت الإذاعة المصرية تعيد بثها يوم 5 يونيو في الوقت الذي كانت فيه مطاراتنا قد تحولت إلي هدف سهل للضربات الإسرائيلية المركزة!! أليس الكذب هنا هو ذاته الكذب هناك؟! أم أن أكاذيب الإخوان حلال وبيانات عبدالناصر حرام؟ هذه ليست كل مفاجآت عمارة عم فخري.. والمفارقة ليست في صاحب عمارة مسيحي يرتبط بعلاقة أبوية مع طلاب مسلمين.. حيث لم يكن من سكان العمارة مسيحي واحد. كما أن الطرافة لا تقتصر علي شقة يسكنها طلاب يساريون نشطون وفي مواجهتهم مسجد يديره الإخوان المسلمون. المفاجأة الأكبر أن العمارة المواجهة لنا تماما كان يسكن بها مفتش مباحث أمن الدولة بأسيوط في ذلك الوقت!! وأشهد أنه كان رجلا دمث الخلق.. طبيعة عمله كانت تقتضي غيابه عن المنزل أغلب الوقت.. وفي فترات الراحة كان يجلس علي مقعده في الشرفة دون أن يتعمد مضايقتنا أو استغلال سلطته في مواجهتنا خاصة أن بعضنا كان متخصصا في معاكسة الفتيات أثناء مرورهن أمام العمارة. هذا لا يمنع طبعا من أننا كنا نري جنود "المراسلة" وهم ينظفون شقة الباشا ويقومون بجميع الأعمال المنزلية ويتحملون ضربات موجعة علي ظهورهم من أبناء سيادته.. ربما علي سبيل الدعابة! ومع مرور الوقت نشأت علاقة صداقة عبر النوافذ فقط بيننا وبين أولاد الباشا الذين كانوا وقتها أطفالا أكبرهم لا يتجاوز عمره 15 عاما. ثلاث سنوات مرت وهذه المنظومة لم تتغير حتي بعد أن مات عم فخري وحل محله ابنه الذي لا يقل عنه أدبا واحتراما.. صحيح أن علاقتنا به لم تصل إلي حد أن يقرضنا بدلا من أن يطالبنا بالإيجار.. لكنه استمر علي نهج والده الذي أورثه الخلق الرفيع والأدب الجم. ومع نهاية كل عام دراسي كنا نوصي عم فخري وابنه من بعده بألا يؤجر لأحد سوانا فيترك لنا المفاتيح ويصرح لنا بالمبيت في عمارته خلال الإجازة الصيفية إذا حضرنا لأسيوط في أي وقت. ظل الإخوان حتي أنهيت دراستي يقيمون ندواتهم يوم الثلاثاء.. واستمر أصدقائي اليساريون علي ولائهم لمبادئ الاشتراكية وتعاليم ماركس حتي تفرقت بهم السبل وشغلت الحياة بعضهم فأصبحوا مجرد متعاطفين بينما أكمل البعض الآخر مسيرته ومازلت حتي الآن أتابع أنشطتهم حيث يحتل عدد منهم مواقع تنظيمية في حزب التجمع.. وحتي رحلنا عن أسيوط وأيامها الجميلة كان مفتش أمن الدولة يسكن في شقته.. يجلس في الشرفة يوم راحته ليشرب الشاي.. يذهب إلي عمله ويعود دون أن تحرسه مدرعات أو يضطر جنوده لغلق الشارع. وفي المرات القليلة التي سافرت فيها إلي أسيوط كنت حريصا علي متابعة عمارة عم فخري من نافذة القطار.. مرة واحدة ذهبت إلي هناك ومررت أسفل العمارة متطلعا إليها.. سألت زملائي بعد ذلك عن سر شرفاتها المغلقة دائما فقيل لي إن نجل عم فخري يرفض تأجيرها.. وبرر البعض ذلك بأن جهات أمنية أبدت تحفظها علي سكني طلاب الجامعة في هذه العمارة بالتحديد.. ورغم عدم وجود دليل علي ذلك إلا أنني أجدني ميالا لهذا التفسير حيث إن أحداث العنف قد اشتعلت في أسيوط والمنيا في أوائل التسعينيات وأصبح رجال الأمن أهدافا في قوائم الاغتيال التي أعدتها الجماعات الإسلامية. لقد كنت محظوظا لأنني رحلت عن أسيوط قبل اشتعالها.. عشت في عمارة عم فخري سنوات هي الأجمل في عمري كله حتي الآن.. شهدت كيف يمكن لعم فخري المسيحي أن يصير أبا حنونا لحوالي 16 شابا مسلما مغتربا.. ورأيت وهذا من فضل ربي مسئولا كبيرا في أمن الدولة يتعامل مع الناس بلياقة وأدب ويري شبابا يقفون في الشرفة المواجهة لشقته بالشورت والفانلة ولا يأمر باعتقالهم.. اكتشفت أكاذيب الإخوان وعشت إحباط اليسار.. لتظل عمارة عم فخري مثل مكان أسطوري يداعب مخيلتي كلما بحثت في الذاكرة عن أيام جميلة أو ذكريات رائعة!!