حاولت مصر بكل الطرق ان تعمل علي تخفيف الحصار الذي يتعرض له سكان غزة، سواء من خلال الفتح المؤقت للمعابر، او الامدادات الانسانية، او التوصل الي تهدئة بين حماس واسرائيل، لكي تتاح الفرصة لسكان القطاع للتنفس. يبدو ان مشكلة امن الحدود المصرية مع قطاع غزة ستعود مرة اخري، فقد بدأت عناصر قيادية من حركة حماس في التحرش بمصر، عبر تصريحات نارية حول "فك الحصار" عن غزة بكل الوسائل، وتحركات بشرية في اتجاه المعابر الحدودية، مع اقتراب غير مسموح به من تلك الخطوط الحمراء التي يفترض انها تتطلب ردا مصريا، وسوف تكون نتائج اختبار القوة هذه المرة مهمة، فإما انها ستؤدي الي توقف حماس عن ممارسة الالعاب الخطرة مع مصر لفترة تالية، او انها ستقود الي مشكلة، سيبدأ بعدها الحديث عن اطار جديد لعلاقات مصرية - فلسطينية. ان المعضلة الحقيقية فيما يجري، هو ان هناك بالفعل مشكلة خانقة غير انسانية تواجه قطاع غزة، لكن لم يتم طرح الاسئلة الصحيحة حول المتسببين في تلك المشكلة، فآخر ما يرغب اي احد في مناقشته هو ما اذا كانت اسرائيل هي المتهم الرئيسي فيما يجري ام لا، او ما اذا كانت حماس تتبع استراتيجية غاندي في تلقي الضربة تلو الاخر دون اي فعل، لكن ما يجب مناقشته هو ما تحاول حماس تسويقه من ان سبب المأساة يتعلق بسلوك الاطراف المجاورة للقطاع، كمصر تحديدا؛ لانها لا تقوم بما يجب، وفق تصورات الحركة لما يفترض ان يتم القيام به، وهو فتح الحدود، ، وانهاء الحصار، فيما يشبه فيلما هنديا لن يصفق له سوي جمهور الترسو. ان فتح الحدود ببساطة سوف يؤدي الي خروج قطاع غزة - الذي هو ليس ملكا لحماس- من المنطقة الجمركية الموحدة الاسرائيلية الفلسطينية، وهو ما تسميه حماس فض الاشتباك الي الاموال التي انفقها الفلسطينيون خلال اجتياح يناير 2008، او الي الرواج الذي ستشهده سلع مصر مقارنة بالسلع الاسرائيلية في القطاع، لكن احدا لا يقول ان النتيجة المباشرة ستكون انفصالا فوريا ليس بين غزة واسرائيل وانما بين غزة والضفة الغربية، ليتم تدمير الدولة الفلسطينية المتصدعة اصلا قبل ان تنشأ. ففك الحصار علي طريقة حماس لن يحل المشكلة، بل انه قد يؤدي الي نكبة فلسطينية جديدة. لكن الاهم هو ان أيا من قادة الحركة لم يطرح علي نفسه مجرد خاطر ان حماس ذاتها ربما تمثل مشكلات قطاع غزة، وان التعامل مع مشكلة القطاع يبدأ بفك قبضة حماس علي القطاع ذاته، وليس تسيير المسيرات في اتجاه الحدود، او تهديد الاخرين باختراق المعابر، التي يمكن ان يتم فتحها، بدون حاجة الي مثل تلك الحركات الاستعراضية، اذا قبلت حماس فقط بان تتعامل مع الشرعية التي يفهمها الجميع ويتعامل معها الجميع، بعيدا عما تريده او تعتقده، اذا كانت المصالح الفلسطينية الواقعية هي التي تحكم تفكير وسلوك الحركة. لقد كان قطاع غزة واقعا دائما تحت الحصار، وفي ظل فترة حكم السلطة الفلسطينية ايام الرئيس عرفات، اخترقت اسرائيل كل الحدود المقبولة عسكريا او سياسيا او انسانيا للتعامل مع غزة، لتدمر المطار والميناء والمقرات والمنازل، في حركات همجية وصلت الي تجريف الاراضي الزراعية، وتكررت تلك المواقف كثيرا بعد ان تولي ابو مازن رئاسة السلطة الفلسطينية، ولم يحدث في اي وقت ان تركت السلطة المشكلة الاساسية، لتبدأ في تحميلها الي الاطراف المجاورة خاصة مصر. ان حماس لا تريد ان تفهم ابدا أن مشكلة قطاع غزة رقم واحد تتعلق بها هي نفسها، وان كارثة القطاع قد بدأت عندما قررت قياداتها في الخارج وعناصرها المسلحة في الداخل ان تنقلب علي السلطة الوطنية، وان تسيطر علي القطاع، في ظل حسابات بسيطة او شريرة، بشأن ما سيكون الموقف عليه في الفترة التالية، وفي الواقع لم يتم التفكير ابدا فيما سيحدث لغزة، والان يتم تحميل الاخرين مسئولية ما جري، دون ان تفكر معظم قيادات الحركة انهم ساروا في الاتجاه الخطأ أبعد مما يجب. ان الخطوة الاولي للتعامل مع المشكلة تمر بحماس ذاتها، فعلها ان تعتذر وان تتراجع، بصرف النظر عما اذا كان ذلك يمثل مطالب لابو مازن ام لا، وعليها ان تقبل صيغة سياسية توافقية لعودة اوضاع ما قبل الانقلاب علي ما كانت عليه، علي الاقل فيما يتعلق بالمعابر وان تدرك ان الاخرين ليسوا "كفارا" او مجرد حفنة من الفاسدين او العملاء كما يحلو للتيارات الايديولوجية ان تعتقد دائما، لكن هل تفعل حركة لا تزال تتصور انها تمثل الاعلين في الارض، ذلك؟ فسوف تكون مفاجأة اذا كانت الاجابة هي نعم. لقد وصلت اوضاع قطاع غزة الي الحضيض في ظل حكم حماس، اذ انتشرت الجماعات المتطرفة بصورة غير مسبوقة، ولم تتمكن حماس من ان تقدم سوي ما يشبه موائد الرحمن لسكان القطاع، وساد نمط، ينبغي دراسته من السلطوية والعنف في علاقة حماس مع الفصائل الاخري كالجهاد الاسلامي، او مع سكان القطاع انفسهم، مع ملامح لنوع من الفوضي في المقاومة ذاتها، فبعض الاساليب المتبعة لم تكن مفهومة كالهجوم علي بعض المعابر في الوقت الذي كانت تستعد فيه لاستئناف امدادات الوقود. لكن الاهم انه بدأت تظهر في الفترة الاخيرة تقارير تؤكد ان حياة وقيم مجتمع غزة في سبيلها الي التصدع بصورة غير مسبوقة، وان قطاعات عديدة لم تعد مستعدة للتمسك بأية معايير اخلاقية، في ظل حالة الملل والفراغ الحالية. لقد حاولت مصر بكل الطرق ان تعمل علي تخفيف الحصار الذي يتعرض له سكان غزة، سواء من خلال الفتح المؤقت للمعابر، او الامدادات الانسانية، او التوصل الي تهدئة بين حماس واسرائيل، لكي تتاح الفرصة لسكان القطاع للتنفس، ولكي تتاح الفرصة للبدء في حل المشكلة الفلسطينية - الاسرائيلية، ولم يترك اجراء واحد واقعي لتخفيف الضغط علي غزة، دون ان يتبع، وكانت مصر تعتقد ان ذلك سيكون كافيا لكي يفهم قادة حماس، انها تقوم فعليا بما تعتقد انها يجب ان تقوم به، وانها جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة، وأن لا حاجة للتفكير في اية حركات عشوائية لن تجدي سوي في الدفع بسكان القطاع الي الفراغ. لكن يبدو بوضوح انه لا يمكن الثقة طويلا في بعض قيادات حماس، فالسياسيون في الداخل يواجهون مشكلة مع القسامين، من ناحية، وقيادات الخارج التي تمتلك التمويل من ناحية اخري، وبالتالي فانه حتي لو رغب هؤلاء في تهدئة الموقف، لن يجد ذلك صدي هاما بين كوادر حماس عموما، ولن يسمح قادة الخارج بحدوث ذلك، فلديهم حسابات تتجاوز بكثير اوضاع غزة. إن تصريحات شديدة الاحترام تشير الي بداية ادراك لوجود مشكلات في ادارة القطاع، لكن حتي يتحول كل ذلك الي تيار رئيسي داخل حماس، وحتي تدرك الحركة ان الجميع سوف يساعدونها اذا قررت مساعدة نفسها، وحتي يتمكن اي من قياداتها في الداخل من اصدار اشارة واحدة جادة للفت انتباه الممولين الي ما ستؤول اليه اوضاع غزة، فان علي الجميع ان يبتعدوا عن حدود مصر، فربما تحترق اصابعهم هذه المرة.