تتردد أنباء عبر وسائل الإعلام، خاصة الفضائيات، عن اعتزام مجموعة من اليهود الحضور إلى القاهرة لتفقد "المزارات" اليهودية، وعقد مؤتمر بعنوان "العصر الذهبى ليهود مصر". ووفقا لهذه التقارير الإعلامية فإن مائة شخصية يهودية سيأتون من إسرائيل، وستقوم السفارة الإسرائيلية باستضافتهم، كما سيضع المركز الأكاديمى الإسرائيلى مؤتمر "العصر الذهبى ليهود مصر" تحت رعايته. وقد تضاربت ردود أفعال الجهات الرسمية إزاء ما ورد فى هذه التقارير الإخبارية، ما بين مكذب ومهِّون ومترقب. أما الشخصيات العامة التى تناولت هذا الموضوع فقد اكتفت بالتحذير من أن الهدف الحقيقى لزيارة الوفد الإسرائيلى، وعقد مؤتمر عن "العصر الذهبى ليهود مصر"، هو وضع خطة للمطالبة باستعادة اليهود المصريين للممتلكات التى تركوها وراءهم قبل رحيلهم عن مصر، خاصة مؤسسات كبرى مثل "بنزايون"، و"عدس"، وغيرهما. الوحيد الذى تناول الجوانب المتعددة لهذا الموضوع المعقد هو الكاتب الكبير صلاح عيسى. فمن ناحية، حرص على رفض انعقاد مؤتمر لليهود المصريين (سابقا) الإسرائيليين (حاليا) فى القاهرة، خاصة إذا كان منظما من قبل السفارة الإسرائيلية أو المركز الأكاديمى الإسرائيلى، لأن هذا يندرج تحت أعمال "التطبيع" مع دولة إسرائيل. ومن ناحية أخرى، وضع صلاح عيسى أصبعه على جانب مهم آخر غالبا ما يتجاهله الكثيرون، ألا وهو اليهود المصريون الذين خرجوا من مصر، لكنهم لم يذهبوا إلى إسرائيل، ولا يحملون الجنسية الإسرائيلية. هؤلاء من حقهم العودة إلى بلدهم مصر. ونقلت الزميلة عبير عطية، المحررة بمجلة "صباح الخير"، عن صلاح عيسى قوله إنه أول من أعد مشروعا لمؤتمر لتجميع يهود مصر فى العالم، وعقده فى القاهرة منذ عام 1969، وذلك عندما التقى فى المعتقل مع عدد من اليهود الذين تم اعتقالهم بعد نكسة 1967. وما ذكره كاتبنا الكبير يسلط الضوء على زاوية مهمة مسكوت عنها، وهى أن الحكومات العربية ساهمت مساهمة "إيجابية" فى إنشاء دولة إسرائيل، حيث زودتها بما يقرب من ستين فى المائة من سكانها اليهود. هؤلاء كانوا "مواطنين" عربا، يعيشون فى البلدان العربية المختلفة، فقد كان هناك يهود عراقيون، ويهود مصريون، ويهود يمنيون، ويهود مغاربة، ويهود تونسيون.... إلخ. وقامت الحكومات العربية المختلفة ب"دفع" أغلب هؤلاء اليهود إلى الخروج من البلاد العربية، وكانت إسرائيل هى المحطة النهائية التى حطوا الرحال بها فى نهاية المطاف. حدث هذا بعد نكبة 1948، ثم حدث بالتزامن مع العدوان الثلاثى عام 1956، كما حدث فى حرب يونيو 1967. وهذا سلوك يطرح أكثر من سؤال. وبطبيعة الحال فإن السؤال الأول والأكبر هو عدم احترام معظم الحكومات العربية على امتداد هذه العقود لمبدأ "المواطنة". فالمفترض أن هؤلاء مواطنين مصريون أو عراقيون أو خلافه، ومن حقهم أن يتمتعوا بجميع حقوق المواطنة وتحمل واجباتها ومسئولياتها. فلماذا يتم القبض علىهم بصورة جماعية وإيداعهم فى السجون والمعتقلات وإجبارهم على مغادرة البلاد؟!. المنطق يقول إنه إذا كان هناك عدد يزيد أو يقل من الأفراد مشكوك فى انتمائهم وولائهم للبلد الذى يعيشون فيه، فإن هؤلاء يجب القبض عليهم، والتحقيق معهم ومحاكمتهم محاكمة علنية عادلة، دون أن يكون ذلك عقابا جماعيا لكل من ينتمى إلى الديانة اليهودية. لكن حكوماتنا لم تفعل ذلك، وهى لم تفعله مع اليهود فقط، وإنما على جميع "رعاياها" من مختلف الديانات بصورة أو أخرى. وليست الحكومات العربية وحدها هى التى انتهجت هذه السياسة الردئية، بل سبقتها حكومات لا تكف عن التشدق بالديمقراطية أطراف الليل وأناء النهار، وفى مقدمتها الإدارة الأمريكية التى جمعت الأمريكيين من أصل يابانى، ووضعتهم فى معسكرات اعتقال بعد الهجوم الشهير على "بيرل هاربور". وبطبيعية الحال يجب أن نعترف بأن الوضع الخاص باليهود له تعقيدات إضافية، وبالذات بعد إنشاء إسرائيل التى تأسست باعتبارها ملاذ اليهود فى سائر أنحاء العالم التى ستخلصهم من العذاب الذى تعرض له اليهود فى سائر أنحاء الدنيا على مر العصور، فيما عرف باسم "المسألة اليهودية". هذا الوضع خلق بالفعل معضلة انتماء لليهودى فى البلد الذى ولد وترعرع فيه. ومع ذلك فإن الكفاح ضد الصهيونية كان ومازال يقتضى التشجيع على "اندماج" اليهود فى مجتمعاتهم، لأن هذا هو أفضل الوسائل لقطع الطريق أما خطط تجنيدهم للمشروع الاستيطانى فى فلسطين. فضلا عن أن هذا هو الموقف الديمقراطى الصحيح. ومن الحقائق التى قد تغيب عن بال الكثيرين أن بعض اليهود المصريين، اليساريين، كانوا هم رواد الكفاح ضد الصهيونية فى مصر قبل وبعد إنشاء الدولة اليهودية. وبدلا من هذا النهج الصعب، لكن المبدئى، استسهل الحكام العرب ترحيل اليهود غير عابئين بأن نهاية هذا الترحيل ستكون هى أرض إسرائيل. وقد ذكرنى كلام الأستاذ صلاح عيسى بتلك النظرة عقب هزيمة 1967، حينما تم اقتيادنا إلى معتقل طرة السياسى، ووجدنا هناك عددا من اليهود المصريين، وكان قائد المعتقل المقدم عبدالعال سلومة، يحثهم على كتابة طلبات بالخروج من مصر، ولا أنسى أن أحدهم كان يعمل جزارا بالإسكندرية، قال للعقيد عبدالعال سلومة: ياحضرة الضابط أنا إسكندرانى ولا أعرف بلدا آخر غير الإسكندرية، ولا أعرف لغة أخرى غير اللغة العربية، ولا أريد أن أترك بلدى لأذهب إلى إسرائيل لكن كلماته ذهبت أدراج الرياح. وأذكر أيضا أننا فكرنا فى وسيلة للتغلب على ملل الاعتقال الذى لا نعرف له نهاية، فاقترحنا على الإخوان المسلمين أن نلعب معهم مباراة كرة قدم لكنهم رفضوا بإباء وشمم، فذهبنا إلى اليهود الذين رحبوا على الفور. وأقيمت المباراة وفازوا علينا فوزا ساحقا، لكن المثير للدهشة أن الإخوان المسلمين كانوا يشجعون اليهود ضدنا بحماس، وعندما سألناهم عن السبب قالوا إن اليهود "كتابيين" أما نحن فيساريون والعياذ بالله!! وبعيدا عن هذه الذكريات، وأيضا بعيدا عن المؤتمر الغامض حول "العصر الذهبى ليهود مصر" فإنه ربما آن الآوان للتفكير فى طريقة جادة لدعم مبدأ "المواطنة" فى العالم العربى، خاصة وأننا نشهد بعيوننا المأساة التى يتعرض لها المواطنون "المسيحيون" العرب فى بعض البلدان مثل العراق، فهؤلاء الذين لعبوا دورا مهما فى بناء العراق الحديث، هربوا بجلودهم من بلاد الرافدين فىما يشبه الهجرة الجماعية القسرية، والمفارقة أن ذلك حدث فى ظل "الديمقراطية" الأمريكية!! فمتى نتعلم؟!