الأستاذ هويدي لم يكف أبدا عن نعت السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس بأسوأ الصفات التي تلخصها كلها كلمة واحدة هي "الخيانة". اعترف أن عنوان هذا المقال مشتق أو مستعار من مقال نشر في "الأهرام" يوم الثلاثاء الماضي للأستاذ فهمي هويدي دعا فيه إلي "تفكير آخر في المشهد الفلسطيني" سجل فيه شعوره بالغصة مما وجده من فرح إسرائيلي بما حدث علي الحدود المصرية، كما طالب بتحقيق جاد فيما حدث فعليا علي الحدود ومعه التحقيق فيما حدث في شهر يونيو الماضي عندما انفصلت غزة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وألح علي ضرورة وجود وساطة جادة بين الطرفين، وأخيرا سجل حالة الخوف والوجل الإسرائيلي من نتائج الأوضاع في غزة لو أن الاندفاع الفلسطيني جري في الاتجاه الإسرائيلي وليس في الاتجاه المصري. في كل ذلك فإن "التفكير الآخر" كان يعني طرحا بكلمات أخري لمنهج ورؤية طال عرضها في مقالات وصحف أخري. ولكن الجديد هذه المرة كان الاعتراف أن أرض غزة لا تزال محتلة وينطبق عليها المعاهدات الدولية التي تجعل غزة مسئولية إسرائيلية وهو ما كان غائبا تماما من قبل حينما اعتبر "تحرير غزة" وخروج الجنود الإسرائيليين منها ومعها المستعمرات الإسرائيلية نتيجة لحرب التحرير المظفرة التي تخوضها جماعة حماس ورفاقها من جماعات الممانعة. فقد كشفت الفترة الماضية ليس أن الأراضي الفلسطينية لا تزال محتلة فقط، ولكنها كشفت أيضا المدي الذي يمكن أن تذهب إليه إستراتيجية حماس في استكمال عملية التحرير حيث استحضرت عمليا عودة للاحتلال من خلال الحصار الذي يدفع الفلسطينيين للخروج في الاتجاه المصري. وبدلا من التأكيد علي "حق العودة" فقد بات "حق الخروج" و"حق اللجوء" هو ما تطالب به جماعة حماس ومناصريها في مصر والعالم العربي. وكان هذا الانقلاب نتيجة منطقية لسلسة من الأخطاء الإستراتيجية الجوهرية قامت بها حماس منذ الخروج الإسرائيلي من القطاع والذي كان ممكنا أن يكون نواة لأراض محررة تستطيع فيها السلطة الوطنية الفلسطينية أن تبني فيها علاقاتها الخارجية من خلال السيطرة علي المعابر مع الاتحاد الأوروبي؛ إلا أنها لم تفعل ذلك، وعلي العكس فإنها مضت في عملية الانقلاب من ناحية، وبعد فقدان كل تعاطف عالمي سارت في عمليات القصف الصاروخي التي كان حتميا أن تقود إلي الحصار بالطريقة التي جري عليها. من هنا يمكن الفهم الكامل للإستراتيجية الإسرائيلية منذ وقت طويل والقائمة علي الضغط من خلال الفرص التي تتيحها الجماعات الراديكالية بحيث تشعر الجماهير الفلسطينية أنه ليس أمامها إلا الخروج من فلسطين طالما أنه لا توجد مقاومة أو مفاوضات تكفي للتحرير. ومنذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة وحتي الآن جري الخروج الفعلي للعشرات من الفلسطينيين بطريقة فردية، وكلما كان ذلك ممكنا ومتاحا، ولكن حماس كانت هي التي قدمت لإسرائيل الفرصة الذهبية لكي يكون الخروج بالجملة هذه المرة. ومن هنا يمكن فهم حالة الفرح الإسرائيلية التي يوردها الأستاذ هويدي في أول مقاله، كما يفسر حالة القلق التي يوردها في آخره. وفي الحقيقة فإن رجلنا أراد أن يكسب مرتين في السجال العام عندما يلوم القاهرة مرة لان إسرائيل فرحت من رد الفعل المصري الذي استحضر الأمن القومي والتنمية المصرية؛ ثم يلومها مرة أخري لأنها لا تستوعب القلق الإسرائيلي من اندفاع الجموع الفلسطينية باتجاه إسرائيل وكأن الاندفاع في اتجاه سيناء كان كمجرد تدريب علي الاندفاع الأكبر في المستقبل القريب. وربما كان ذلك عاكسا في جزء منه إلي خواء وسيلة التحليل القائمة علي اعتماد الصحافة والمعايير الإسرائيلية باعتبارها المصدر والمعيار للمصالح الفلسطينية والمصرية والعربية فإذا فرحت إسرائيل وجب الحزن وإذا قلقت وجب الفرح وذلك مع ضياع الهدف العربي الأصلي وهو تحقيق التحرير للأراضي المحتلة وتجسيد الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة. ولكن القضية لا تكتمل إلا عندما يجري التخلص من أشكال البساطة السياسية في ساحة معقدة، بل بالغة التعقيد، فالقضية لدي الأستاذ هويدي يجري حلها عندما تتم الوساطة والحوار بين الجماعتين الفلسطينيتين في غزة ورام الله. ولكنه في نفس الوقت يتجاهل أن حوارا ووساطة قد جرت بالفعل في السابق ولم تحل شيئا أو تتقدم خطوة؛ كما أنه لا يمكن أن يجري حوار أو تحدث وساطة بينما احد الطرفين مصمم علي أن الطرف الآخر يبيع فلسطين، ويخون ثوابتها، ويعقد صفقات مشبوهة مع العدو الصهيوني. الغريب في الأمر أن الأستاذ هويدي لم يكف أبدا عن نعت السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس بأسوأ الصفات التي تلخصها كلها كلمة واحدة هي "الخيانة". لم يقم الأستاذ هويدي أبدا ببناء جسر بين جماعة "المقاومة" وجماعة "المفاوضات"، ولم يشرح لقارئيه أبدا أن المفاوضات والتسوية لها متطلباتها من أول اللقاء مع الأعداء، وحتي الجلوس مع الخصوم. وهو لا يري ما هو ممكن للشعب الفلسطيني غير أن يسلم رقبته إلي جماعة حماس لكي تقوده إلي الطريق الذي قادته له حماس حيث "المقاومة" أكثر أهمية بكثير من التحرير، وانتزاع حق الخروج، أهم من إعطاء الفلسطينيين فرصة للعودة إلي أرض فلسطين. والأكثر غرابة من كل ذلك أن الأستاذ هويدي يريد من مصر أن تستدرج لكل ذلك، فلم يكن إغلاق مصر للحدود تعاونا مصريا مع الحصار الإسرائيلي وإنما كان استعادة مصر للأوضاع التي ترتبط بكل دولة محترمة في العالم. فقد كان أمام جماعة حماس أن تفوت علي إسرائيل الفرصة وتبقي الحدود مفتوحة إذا ما قبلت عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلي الحدود ونقاط العبور مرة أخري لممارسة السيادة الفلسطينية في أشكالها الأولية وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي. ولكن حماس رفضت ذلك رفضا باتا لأنها تريد التأكيد علي انتصارها في غزة علي السلطة الوطنية الفلسطينية بأكثر مما هي تريد السيطرة الفلسطينية علي المعابر أو حتي إبقاء نقاط العبور مفتوحة وفقا لما تم الاتفاق عليه دوليا من قبل. وما لم يدركه الأستاذ هويدي في الأمر أن هناك مصالح مصرية خالصة في الموضوع، فليس صحيحا أن الحفاظ علي الحدود المصرية، والحفاظ علي الازدهار الجاري في سيناء، بل والحفاظ علي التنمية المصرية كلها، هي من قبيل نفوذ " اللوبي الإسرائيلي" بل هي مصالح مصرية خالصة لم ترد في حسابات لا جماعة غزة ولا جماعة في القاهرة. فما لم تعرفه حماس، ولا الأستاذ هويدي، فهو إدراك الحدود، وأن جماعة حماس تستطيع التلاعب بالقضية الفلسطينية كما تشاء، وتأجيل حلها كما تشاء، ولكنها لا تستطيع أن تتلاعب بالاتحاد الأوروبي، واللجنة الرباعية، ومصر بالطريقة التي تريدها، وفي التوقيت الذي تراه !. وفي النهاية فإن المسألة ليست "استقواء" وإنما هي علاقات قوي، قد تخفت قليلا ساعة الأزمة ولكنها في النهاية تفرض نفسها علي الجميع ؟!.