اجتاحت غالبية الدول العربية خلال الآونة الأخيرة ظاهرة إيجابية تتمثل في إقدام حكوماتها علي إنشاء ما يسمي بالمجالس العليا أو الوطنية لحقوق الإنسان اقتداء بالفقرة السادسة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المنشئ لمجلس حقوق الإنسان، وتجاوبا مع التوصية التي وضعتها الأممالمتحدة في دورتها الثامنة والأربعين المعقودة في الرابع من مارس عام 1994 والتي تطالب حكومات دول العالم بإنشاء مثل هذا النوع من المجالس. وبالرغم من مرور زهاء نيف وعقد من الزمن علي غزو مجالس حقوق الإنسان لبلادنا العربية بغرض التأثير المباشر علي عملية صنع القرار التنفيذي في مجال حماية حقوق الإنسان من أجل حماية تلك الحقوق وصيانتها من الجور أو الانتهاك، تطل برأسها علامات الاستفهام متساءلة عن الأثر الذي خلفه إنشاء مثل هذا النوع من المجالس علي أوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي. وتشي أحدث مؤشرات أوضاع حقوق الإنسان في البلدان العربية بأن شيئا من التطور لم يعتر تلك الأوضاع، إذ لم يحدث تقدم في ظل وجود مجالس عليا قومية لدعم وحماية حقوق الإنسان، يمكن للمراقب أن يلمسه أو للمواطن العربي أن يستشعره،وذلك لحزمة من الإعتبارات التي تحيط بنشأة ودور مثل هذه المجالس وهو ما يمكن أن نعزوه لحزمة من الاعتبارات. فباديء ذي بدء، ولدت تلك المجالس واهنة إذ لم تتحرر قواعد إنشائها من الإرث العربي الثقيل في مجال التغيير من أعلي، حيث لم يحظ مجلس عربي واحد بشرف انتخاب أعضائه، الذين جاء جميعهم عبرالتعيين من قبل الحكومات، الأمر الذي يحرمهم نعمة الاستقلالية المفترضة، لا سيما وأنه يفتح الباب علي مصراعيه أمام التشكيل غير المتوازن لتلك المجالس لصالح الحكومات ، وما يستتبعه من عوز للديمقراطية والشفافية والكفاءة في إدارتها، حيث تفتقد تلك المجالس لأية آليات أو معايير ذات محتوي ديمقراطي عند مناقشتها لأية موضوعات أو قضايا مكتفية في ذلك غالبا بإعمال مبدأ التوافق وهو الأمر الذي أفضي في نهاية المطاف إلي إبتسار الدور الذي تضطلع به مجالس حقوق الإنسان في تقديم المقترحات والمتابعة دون أن يمتد إلي مباشرة المهام الرقابية علي الوضعية القائمة لحقوق الإنسان في البلاد العربية وما يشوبها من انتهاكات لا حصر لها، حيث يقتصر نشاطها علي تقديم مقترحات وتوصيات إلي الجهات المختصة في كل ما من شأنه حماية حقوق الإنسان ودعمها، فضلا عن إبداء الرأي والتوصيات اللازمة فيما يعرض عليها أو يحال إليها من السلطات والجهات المختصة بشأن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان،ما يعني أن دور المجالس العربية لحقوق الإنسان إستشاري بحت، حسبما صرح رئيس المجلس المصري لحقوق الإنسان في حديث له مع جريدة الوفد - عدد 5354- بأن مهمة المجلس استشارية ولا تنطوي قراراته أو توصياته علي أي قدر من الإلزام للحكومة . وعلاوة علي ذلك،وقفت البنية التشريعية في غالبية البلدان العربية حائلا دون تفعيل دور مجالس حقوق الإنسان العربية،فتلك البنية في مجملها هي بنية غير منسجمة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كما لا تتخذ من تلك المواثيق مرجعية لها، مثلما هو الحال في دساتير وقوانين كثير من الدول الديمقراطية. ومن سوء طالع الدول العربية أنه لا يوجد ضمن نطاق عمل مجالس حقوق الإنسان فيها آليات عملية أو إجرائية تعني بإصلاح تلك التشريعات ومواءمتها مع القانون الدولي الإنساني، لا سيما وأن الحقوق المدنية علي سبيل المثال والمتمثلة في حق الحياة، والحرية والأمان الشخصي، والحق في الكرامة والتحرر من الخوف والتعذيب، والحق في المحاكمات المنصفة، هي حقوق سابقة علي الدساتير والقوانين، بمعني أنه لا يجوز لدساتير أو قوانين أي دولة أن تنتقص منها . وتأتي طريقة تعاطي الأنظمة العربية مع مخرجات مجالس حقوق الإنسان لتفرض المزيد من التحديات أمام عمل تلك المجالس!ففي دولة مثل تونس، التي كانت سباقة في إنشاء مثل هذا النوع من المجالس،لا تعير حكومتها توصيات مجلس حقوق الإنسان فيها الإهتمام الكافي، وبالتالي لم تشهد انتهاكات حقوق الإنسان هناك تراجعا ملحوظا. أما في مصر، التي يشيع الحديث فيها عن الإصلاح السياسي، فلم يكن الوضع أفضل حالا، إذ لم تكتف الحكومة بتجاهل مراسلات مجلس حقوق الإنسان وتوصياته حتي أنها لم ترسل حتي يناير 2007 تعليقها علي التقرير الثاني للمجلس عن عام 2005! بل إنها لم تتعامل معه بحد أدني من اللياقة والاحترام،حتي إنها في تعليقها علي التقرير الأول، الذي خصصت نصفه لعرض إنجازات الحكومة في مجال حقوق الإنسان، كتبت في ردها، أن الحكومة تفعل ذلك، نظرا لأن المجلس طلب من كل من يقرأ التقرير أن يوافيه بملاحظاته عليه ومن ثم فإن الحكومة، لا ترد بموجب التزام قانوني أو سياسي تجاه المجلس، بل هي تتفضل عليه بردها! كما صمتت إدارة المجلس عن قضايا التعذيب الرئيسية، والتي تناولتها الصحافة المستقلة وكذا المدونون ومنظمات حقوق الإنسان وحولتها إلي قضايا رأي عام، خاصة أن بعضها انطوي علي استخدام التحرش الجنسي كوسيلة للتعذيب، واكتفت الإدارة بتناول بعضها في نطاق ضيق في آخر العام ضمن التقارير السنوية،كما تجاهلت أيضا قضية السجون السرية في مصرواكتفت ببضعة سطور في التقرير السنوي الأول نقلا عن الصحف السيارة، ثم تناست الأمر في التقرير الثاني، وحتي عندما اعترف رئيس الوزراء المصري لوسائل الإعلام الأمريكية بأن حكومته تلقت 60 شخصا للتحقيق معهم، فإن الإدارة لم تستجب لاقتراح بعض الأعضاء بمخاطبته وطلب إيضاحات منه محددة بالأسماء والملابسات والمصير. ولم يكن مستغربا أن يفضي مثل هذا التردي في أداء مجالس حقوق الإنسان العربية إلي توتير علاقاتها بمنظمات وحركات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المستقلة في البلاد العربية علي نحو يستنزف الطرفين ويقوض دورهما لمصلحة الأنظمة الحاكمة. ولكم ظلت كثير من المنظمات الحقوقية في مصر علي سبيل المثال متشككة منذ البداية في مصداقية المجلس المصري لحقوق الإنسان، ولكن أداء المجلس لم يساعد علي تبديد تلك الشكوك بل عمقها، خاصة بعد بيانه الذي أصدره بمناسبة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر، وعدم رفضه قرار اللجنة الحكومية المشرفة علي الانتخابات البرلمانية للعام 2005 بأن يعمل المجلس كمظلة وبوابة لمنظمات حقوق الإنسان، التي ترغب في مراقبتها، الأمر الذي عزز مخاوف بعض المنظمات الحقوقية من أن يكون المجلس أداة حكومية تقوم بدور الوصاية عليها مستقبلا؛ ومن ثم أقامت دعوي أمام القضاء،انتهت بالحكم لمصلحتها. بيد أن المثير في هذا الصدد هو أن عدم إرتقاء المجالس العربية لحقوق الإنسان بأدائها إلي مستوي تطلعات الجماهير العربية قد صب بدوره في مصلحة الأنظمة العربية الحاكمة، التي لم تتدخر وسعا في استثمار وجود تلك المجالس وما يصدر عنها من تقارير دورية ذات مسحة نقدية في ترميم شرعيتها وتجميل صورتها أمام العالم، وهو ما أكده رئيس المجلس المصري لحقوق الإنسان في أكثر من مناسبة، حيث صرح بأن تحسين صورة مصر في المحافل الدولية يعد أحد الأهداف الرئيسية للمجلس .كذلك، لا تتورع تلك الأنظمة عن احتواء حركة حقوق الإنسان العربية وترويضها توطئة لإضعافها ومن ثم احتكار خطاب حقوق الإنسان في بلاد العالم العربي. و هكذا،بات جليا وبما لا يدع مجالا للشك، أن المجالس القومية لحقوق الإنسان في العالم العربي،لم تكن خطوة إيجابية علي طريق ملء الفراغ الذي تركته الدساتير والتشريعات العربية في مجال العناية بحقوق الإنسان العربي وتعزيز احترامها والحد من انتهاكها، بقدر ما كانت مجرد واجهة لتجميل وجه الأنظمة العربية الحاكمة والتغطية علي الحالة المذرية التي آلت إليها أوضاع حقوق الإنسان في البلاد العربية.