"ماذا كانوا يدخنون؟"، هكذا كان عنوان قصة غلاف العدد الأخير من مجلة "فورشن"، وقد وردت معه صور عدد من صرعي أباطرة المال الأمريكي في "وول ستريت"، مرفقة ببيانات مفصلة عن الخسائر المالية الكبيرة التي تكبدها كل واحد منهم. والإجابة في نظري عن السؤال الذي أثاره العنوان المذكور، أنهم كانوا يدخنون سيجارة "الجشع" التي طالما أدمنوها. وما ساعد هؤلاء علي اتخاذ قرارات مدمرة علي الصعيد الاجتماعي، وجود نظام مكافآت المدراء التنفيذيين، الذي كان واجباً إصلاحه عقب فضيحتي "إينرون" و"ورلودكوم" مباشرة، غير أن ذلك لم يحدث بالطبع. والمسئول الأكبر عن مذبحة "وول ستريت" المذكورة هو انهيار القطاع العقاري في بلادنا، وهو ما تنبأ به كثيرون منذ عدة سنوات. ففي أغسطس 2005 كتبت قائلاً: "يدبر الأمريكيون أمر معيشتهم هذه الأيام، بتبادل بيع منازلهم، بأموال مستدانة من الصين. وإن كانوا قادرين اليوم علي تصريف شئون حياتهم بهذه الطريقة، فإنها قطعاً ليست الطريقة المثلي ولا المستدامة لنمط حياتهم في المستقبل". لكن رغم تزايد مؤشرات الانهيار في الأفق الاقتصادي والمالي، فإن مؤسسات وول ستريت وشركاتها واصلت طرح كميات متزايدة من المستندات المدعومة مالياً بعائدات رهن المنازل المشكوك فيها أصلاً. وربما كانت للاستثمارات الأسوأ التي تحدث هزة عامة في السوق المالي العالمي، صلة ما بالفقاعة العقارية الكاذبة، أو حتي بمرحلة ما بعد انفجار هذه الفقاعة بقليل. وفي الواقع، فقد اشترت شركة "ميريل لينش" الجزء الأعظم من ديونها الهالكة خلال النصف الأول من العام الحالي، أي بعد أن أطل رأس الأزمة الحالية وأصبح معلوماً للجميع، حسب المعلومات التي أوردتها مجلة "فورشن". واليوم فهاهي فواتير الخسائر الناجمة عن هذه الأزمة تطال الجميع، وتطالبهم بسدادها عدا عن المسئولين عن هندستها بالطبع. ليس ذلك فحسب، بل إن الخسائر الباهظة التي تكبدها حمَلة أسهم شركات "ميريل لينش" و"سيتي جروب" و"بير ستينرز"، تعد أقل الخسائر الناجمة عن هذه الأزمة. أما في جانبها الإنساني، فالوجه المأساوي حقاً للأزمة الحالية، هو تورط مئات الآلاف إن لم يكن ملايين الأفراد والأسر الأمريكية في صفقات عقارية لم يكونوا علي علم كاف بمخاطرها. وبالنتيجة أصبح جميع هؤلاء في مواجهة ارتفاع حاد في الأقساط الشهرية لمنازلهم، بل فقد كثيرون منهم بيوتهم سلفاً بينما لا يزال عليهم الاستمرار في سداد الفوائد المحسوبة علي تلك البيوت مقدماً! ثم هناك الضرر الجانبي لهذه الأزمة علي اقتصاد البلاد برمته. والغريب أننا لا نزال نسمع البعض يحاولون التقليل من خطر الأزمة الجانبية المترتبة عليها. ورغم صحة القول بأن مبلغ ال400 مليار دولار، وهو الرقم التقريبي لخسائر هذه الأزمة، لا يكاد يعادل شيئاً يذكر من إجمالي قيمة الأصول المالية الأمريكية، فإن الجانب السلبي منها يتمثل في زحف الآثار المدمرة الناجمة عن سوء الاستثمارات العقارية هذه، علي مؤسسات مالية أخري تؤدي دوراً حاسماً ولا غني عنه في توفير الأرصدة. والمؤسف أن رؤوس أموال هذه المؤسسات قد جرفت تماماً بسبب الأزمة المذكورة. وفي آخر تقرير له، ذهبت تقديرات بنك "جولدمان ساكس" إلي أن من شأن الخسائر المالية الناجمة عن هذه الأزمة العقارية، أن ترغم البنوك وغيرها من مؤسسات التمويل الأخري، علي خفض حجم قروضها بما تصل قيمته إلي نحو تريليوني دولار، وهو مبلغ من الضخامة بما يكفي لإطلاق موجة كساد اقتصادي جديدة في البلاد، إذا ما حدث هذا قريباً بالفعل. وفوق هذه الخسائر جميعاً، تضاف خسارة فقدان الثقة، وهي خسارة أشبه بإلقاء حبات من الرمل في تروس ومحركات نظامنا المالي. وكما تكشف بيانات السوق الأمريكية، فقد بات فقدان الثقة هذا أمراً واضحاً اليوم: فهناك فارق كبير بين إقبال البنوك ومؤسسات الاستثمار علي قبول معدلات فائدة منخفضة للغاية من القروض الحكومية وهي ما تعتبرها المؤسسات المالية مضمونة وموثوقاً بها وميل هذه المؤسسات نفسها إلي فرض أسعار فائدة عالية للغاية علي القروض التي تمنحها لبعضها البعض.