بعد أن سكتت المدافع في غزة، بدأت علي الفور، حرب باردة حقيقية بين حركة فتح ومنظمة حماس، في ظل تقييمات محددة من جانب كل طرف، بأن الصراع لم يحسم بعد، وأن ما وقع في القطاع ليس سوي المعركة الأولي، وأن ماسيجري في مرحلة مابعد صدام غزة هو الأكثر أهمية في تحديد النتائج النهائية. وقد بدأ كل طرف بالفعل في محاولة إعادة تقييم أوراق قوته، وتجميع كروت جديدة. وبينما توجد أصوات تؤكد أن الحوار هو الذي سيحل المشكلة، يبدو سلوك الطرفين أبعد بكثير عن أن يقود إلي تفاهمات قريبة. إن أهمية موازين القوي كمفتاح لفهم ماقد يحدث بين الطرفين، هو أن هناك فكرة سائدة تؤكد أن أحدا لن يقبل الحوار في النهاية إلا إذا أرهق بصورة يدرك معها أنه وصل إلي حدود قوته، وأنه ليس لديه إلا مايعرض عليه، قبل أن يبدأ الأسوأ في الظهور، وأن أحدا قد لايقبل التفاهم أيضا إلا إذا أيقن أنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه بوسائل أخري، وأنه ليس لديه كذلك إلا أن يبتلع كبرياءه، وأن يقبل بشراكة ما في الحكم والمال، وتهدف السلطة إلي إرهاق حماس، وتعمل حماس علي تيئيس السلطة. سلطة فتح في الضفة إن موازين القوي الحالية تتسم بالتعقيد الشديد، لدرجة يصعب معها تصور كيف يمكن أن يحقق معها كل طرف أهدافه المفترضة، فقوة حماس السياسية أقل بكثير من قوتها العسكرية، وقوة فتح السياسية أكبر بكثير من قوتها العسكرية، في غزة علي الأقل، ففتح، رغم هزيمتها عسكريا، لاتبدو في وضع سيئ للغاية، إذ أن هيكلها السياسي لايزال قائما في غزة رغم هزيمة عناصرها المسلحة، كما أنها تسيطر تقريبا علي الضفة الغربية التي هي في الواقع "قلب" الدولة الفلسطينية، مع وجود دعم واضح لها من جانب التشكيلات الاجتماعية التي لايرغب معظمها في انتقال "أعراض حماس" إلي مدنها. لكن فتح كسرت سياسيا في غزة، ولايمكنها أن تغامر باستخدام تكتيكات عنيفة ضد سلطة حماس في القطاع، تجنبا لردود الأفعال العنيفة لعناصر القساميين الذين يحكمون غزة بطريقة "النظم الأمنية"، وبالتالي فإن عليها أن تقبل بسيطرة حماس في القطاع كأمر واقع، ولن يكون أمامها لكي تستعيده سوي المفاوضات بعد تجربة كل أساليب الحرب الباردة ضد حماس، وأهمها العقوبات الذكية، والضغط غير المباشر، وربما العصيان المدني، وكل تلك الإستراتيجيات التي تهدف إلي عقاب حماس دون عقاب السكان. إن فتح تتمتع في ظل ذلك الوضع ببعض عناصر القوة، لكنها كلها عناصر قوة ناقصة لاتتيح لها التقدم في اتجاه حسم الأمور، فهناك اعتراف دولي غير مسبوق بشرعية السلطة الفلسطينية، وكذلك أهليتها كشريك للتفاوض مع إسرائيل، مع استعداد لدعمها ماليا وسياسيا، لكن كل ذلك معلق علي شروط، فإسرائيل تبدو وكأنها ترغب في استمرار وضع الانقسام القائم، والإدارة الأمريكية لم تقدم علي ما تعتبره منذ زمن توريط نفسها في القضية، ومصر لاترغب في أن تتحول غزة تحت الضغط إلي منطقة فوضي. وبالتالي، فإن خيارات السلطة الفلسطينية ليست سهلة أو مفتوحة، فلديها مشكلة دستورية تتعامل معها بالقطعة خطوة خطوة عبر قرارات تثير ضجة، وقطاع يتحول شيئا فشيئا نحو حالة من الخروج عن السيطرة، ومشكلة في إدارة استراتيجيات مواجهة تعتمد علي خيوط رفيعة، وسلطة موازية سوف تستخدم كل الطرق المتصورة وغير المتصورة لإفقادها مصداقيتها، ودعم خارجي يقف عند حدود معينة، ويتطلب أحيانا دفع ثمن لاتحتمله السلطة. لكن الأهم هي المشكلة الداخلية في حركة فتح ذاتها، فقد سادت قناعة داخل السلطة منذ اليوم الأول لنهاية المعارك، بأن التعامل مع مشكلة حماس يبدأ بالتعامل مع مشكلة فتح، التي نخرها الفساد والتشرذم والتمرد الداخلي بصورة أدت إلي تصدعها، وقد تمكن الرئيس عباس من مواجهة بعض أجنحة فتح الجانحة، التي لم تتوقف أبدا عن إثارة المتاعب أمامه، و تنحي عدد من قياداتها الوسيطة عن مواقعها الأمنية مثل محمد دحلان ورشيد أبو شباك. لكن المتاعب لم تنته بعد، فقد بدأت أطراف خارجية لم تكن تجرؤ علي الكلام في عهد أبو عمار في إثارة متاعب من بعد، سواء برفض قرارات أبو مازن الخاصة بحل الميليشيات المسلحة، أو بشن هجوم علي بعض قيادات الحركة، وتبني تلك النظرية الخاصة بأن حرب غزة نشبت لأنه كان هناك من يعد لانقلاب داخلي في فتح، وهنا تبرز أسماء فاروق القدومي وهاني الحسن، اللذان ووجها بوثائق وتسريبات مضادة تشير إلي أن ارتباطاتهما لم تعد كما كانت عليه، المهم أن مسألة ترتيب بيت فتح لاتسير أيضا ببساطة. معسكر حماس في غزة علي الجانب الآخر لاتبدو حماس رغم انتصارها في وضع جيد تماما، فإذا كانت فتح تواجه مشكلة، فإن حماس تواجه معضلة، فليس من الواضح حتي الآن من الذي اتخذ قرار استخدام القوة علي نطاق واسع للسيطرة بتلك الصورة علي قطاع غزة، والتفسير السائد حتي الآن، هو أن قادة الجناح العسكري الخمسة الرئيسيين هم الذين اندفعوا في هذا الاتجاه، في ظل توجيهات عامة، من قيادات خارجية، أهمها خالد مشعل، وليس معظم قيادات الداخل، رغم أنهم هم الذين يقفون في الواجهة. إن عنصر القوة الرئيسي لدي معسكر حماس هو أنهم يسيطرون علي قطاع غزة بالفعل، وأنهم قاموا بكسر شوكة فتح في القطاع، وتمكنوا من إفقاد كثير منهم مصداقيته العسكرية والسياسية، ولديهم أوراق إعلامية لانهاية لها، استنادا علي الوثائق التي حصلوا عليها، ويمكنهم تبعا لذلك أن يقوموا بفرض الكثير من شروطهم في الفترة القادمة، لاسيما وأنه لايبدو أن لديهم حتي الآن نفس مشكلة الانقسامات الداخلية علي غرار فتح. إن حماس تدرك أن سيطرتها عسكريا علي غزة ليست نهاية المطاف، لذا هددت بعض قياداتها بأن توغل في إجراءاتها بالقطاع لتفقد السلطة غزة إلي الأبد، بل إنه في ظل مناخ التهديدات، خلال الفترة الأولي، أشار بعضهم إلي إمكانية نقل المعركة إلي الضفة الغربية، إلا أنها لايمكنها أن تفعل ذلك ببساطة، فهي تواجه نفس مشكلة فتح في غزة، فهناك محددات تحيط بمسألة العنف، لكن لم تعد هناك أيضا خطوط حمراء علي الساحة الفلسطينية. إن حماس تواجه أيضا مشكلة شرعية (مثل السلطة)، فعليها طوال الوقت أن تستمر في البحث عن أسباب معلنة إضافية للانقلاب الذي قامت به، فلم يتفهم أحد ببساطة استخدام القوة بتلك الصورة، كما أن الممارسات التي قامت بها عناصر القوة التنفيذية ضد عناصر فتح ومقر الرئاسة ومنزل عرفات، والصور التي بثت تطرح أسئلة كبري حول ما إذا كانت المسألة هي فتح أم الدولة الافتراضية المتمثلة في منظمة التحرير، فنوايا حماس (ليست مثل نوايا فتح)، لاتزال تثير تقديرات عديدة. إن قادة حماس يواجهون كذلك بآلة سياسية وأمنية ومالية عاتية تعمل علي استهدافهم، وأنهم معرضون بشدة لأن تتم تجربة كل أساليب الحصار والعقوبات في مواجهتهم، خاصة وأنهم قد أثاروا بشدة مخاوف أطراف عديدة في المنطقة والعالم، والداخل الفلسطيني، ولايتمتعون سوي بثلاث دول حليفة، وعدة قوي إسلامية في المنطقة، وأنهم أصبحوا في مواجهة إسرائيل مباشرة، ومصر بشكل غير مباشر، ولديهم فقط البحر والأنفاق. لكن التحدي الرئيسي هو ما الذي سوف يفعلونه بقطاع غزة، وقد نأت حماس بنفسها عن الخيارات الكبري الخاصة بالإمارة الإسلامية أو الدولة المنفصلة، وبدأت في محاولة إرساء وضع قائم يستند علي تأكيد الاعتراف بها، بأية وسيلة، فقد بدأت في محاولة طرح أسلوب مستقر لإدارة القطاع، ومحاولة الحصول علي أكبر قدر من الأموال للاحتفاظ بولاء المواطنين، مع تأمين إسرائيل ضمنيا بصورة يبدو معها أنها لن تشكل تهديدا جادا، وتقديم إشارات تعاونية للدول الأوروبية علي غرار إطلاق المراسل البريطاني المحتجز، مع اتباع طريقة خالد مشعل في التصريحات مزدوجة الدلالات، لحل مشكلتها السياسية. لكن هذا الطريق لن يكون سهلا، فحماس سيكون عليها أن تعمل علي اتجاهين متناقضين طوال الوقت، بين مهاجمة السلطة والاعتراف بشرعيتها، وبين إدارة القطاع وتأمين نفسها، وبين تقديم إشارات تعاونية والاحتفاظ بمصداقيتها الأيديولوجية، وبين عدم استفزاز إسرائيل وعدم الاعتراف بها، وبين الاعتماد علي القوة التنفيذية ومحاولة كبح جماحها، وبين إظهار الاستقلالية عن المحاور الإقليمية وحاجتها إلي تلك المحاور، كما سيكون عليها أن تفكر في كابوس أن أطرافا عديدة أصبحت تعتقد أنها حاصرت نفسها في مصيدة. وهكذا، فإن ماهو قائم في حقيقة الأمر ليس "موازين قوي"، ولكن موازين ضعف بين الجانبين، والمشكلة أن عناصر في السلطة الفلسطينية، لديها يقين بأنها يمكن أن تحسم الأمور في النهاية، في مواجهة الانقلابيين في غزة، ولدي قيادات حماس ثقة مفرطة بأن الألعاب السياسية التي يمارسونها في كل اتجاه يمكن أن تؤدي إلي النصر المبين، وسوف يستغرق الأمر وقتا، ليدرك الطرفان، أنهما يخوضان معا "لعبة سجناء"، ليس أمامهما للخروج منها إلا التعاون في النهاية.