الآن وبعد أن سكتت المدافع وانتقلت عهدة قطاع غزة إلي حركة حماس الإسلامية واحتفظت حركة فتح بالضفة الغربية يكون الفلسطينيون قد دخلوا دربا جديدا لا يعرف أحد بالتأكيد إلي أين يقود. ولعل المنافسة الجارية علي القيادة الجديدة للفلسطينيين تضفي بعدا سرياليا علي المسألة لاسيما وأن غمار المعركة الجديدة علي أهلية القيادة طغت علي الذكري الأربعين للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة إذ تجري الأمور وكأن الاحتلال قد ولي بالفعل. ربما باتت ذاكرة الفلسطينيين قصيرة قصيرة جدا ولم يعد بمقدور المساحة المتبقية استقبال أي جديد لكن ثمة من لهم هناك علي قمة القرار الفلسطيني الداخلي منشغلون في تقسيمات وظيفية يعتقدون أنها ستسبغ عليهم ثوب الشرعية. وفي الوقت الذي تتنافس فيه كل من قيادة غزة وقيادة الضفة علي الفوز بالباب الجمهوري المتعب المنهك تأخذ تداعيات سفك الدم التي سمحت بسيطرة حماس علي القطاع أبعادا ليس بالمقدور فهمها علي وجه التحديد. فجردة حساب فلسطينية حالية ستكون عصية علي الفهم وخارجة عن المألوف خصوصا أن احتمالات الوقوف علي الحقائق والمعطيات قد تبخرت ولم يعد ثمة مجال لمراجعة جدية صادقة ليس هناك متسع من الوقت ولا وجود لذاكرة يمكن لها أن تحفز علي التفكر. وفي غضون ذلك كله يجد المتنافسون علي دفة القيادة والسلطة الوقت كله لرسم معالم طريقهم وعرض امكانياتهم ومهاراتهم علي القيادة السديدة والحكم الرشيد إنها فرصة العمر لمن أراد أن يصعد الي قطار السلطة الفلسطينية الجديدة. إنها إذاً بذور تزرع علي عجل وفي أرض شديدة الملوحة عطشي للمطر، بذور لإعادة تشكيل الكيان الفلسطيني الذي ما فتئ يبحث عن استقرار. يشعر الجميع هنا ان ثمة عهدا جديدا قد بدأ عهد هلامي غير واضح الملامح لكنه قد انطلق بالفعل ها هي حركة حماس بسطت يدها ليس كل البسط علي قطاع غزة هي التي تحمل السلاح وتنظم السير وتطلق سراح المختطفين لكنها تغض الطرف عن دور حكومة الطوارئ في ادخال الأموال والغذاء وكل الأمور الحياتية الأخري. تعمل حماس علي تأكيد صحة نظريتها وشعارها بأنها الأقدر علي فرض الأمن والقانون بعد أن فشلت حركة فتح ممثلة بالسلطة الفلسطينية في ذلك. وهناك في الضفة الغربية مازالت الرئاسة قائمة وحكومة الطوارئ تدير الشأن المالي الإداري إذ لا حاجة للتشريع والقانون مع تعطل المجلس التشريعي المعطل أصلا وهي أيضا ممثل الفلسطينيين الشرعي بصورته الدولية حيث يحضر استقبال الضيوف الأجانب الرسميين. أما الأمر الواضح الأكيد فهو انقسام الجمهور الفلسطيني بين مؤيد لحماس وآخر للرئاسة إذ لا يرد اسم حركة فتح كثيرا هذه الأيام عند تناول التأييد والمعارضة خصوصا وأن تجربتها القاسية المؤلمة أمام حماس في غزة قد جعلت منها قوة افتراضية لا أكثر. وفي مسألة فرض الوقائع الجارية في إطار السباق علي القيادة تؤكد مصادر الرئاسة أن الرئيس محمود عباس وبصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يعد لدعوة المجلس الوطني للانعقاد من أجل شل المجلس التشريعي الذي تسيطر عليه حركة حماس. ويمكن لهذه الاجراءات والخطوات ان تستمر لأشهر قادمة الأمر الذي يعني تحويل حكومة الطوارئ برئاسة سلام فياض الي حكومة تشغيلية كاملة واستمرار حماس في فرض سيطرتها الأمنية علي قطاع غزة دون الحاجة الي فعل ما هو أكثر من ذلك. بإمكان كل طرف في غزة والضفة أن يقدم النموذج الذي يريد عن قدرته علي الحكم والقيادة لكن ذلك لا يلغي علي الإطلاق إدراك كل منهما الحاجة الي الحوار في نهاية المطاف وفي حين يصر الرئيس عباس علي رفض التحاور مع من سماهم "الانقلابيين" في قطاع غزة فإن ثمة من هم غير انقلابيين ويمكن التحاور معهم. ولا يمكن تصور تراجع حركة حماس عن سيطرتها الحالية علي قطاع غزة دون مقابل وهي التي راحت منذ تأسيسها علي مدار عشرين عاما تعمل للوصول إلي قمة القيادة الفلسطينية ولم يكن مفاجئا دعوة حماس للحوار فور سيطرتها علي غزة. ويؤكد اكثر من مصدر وجود وساطة قطرية تعمل علي جمع حماس وعباس مجددا لكن الرئيس العنيد مصمم علي عدم محاورة الانقلابيين "اسماعيل هنية ومحمود الزهار وسعيد صيام" بل ومحاكمتهم ايضا لذلك يتوقع أن تضحي حماس بهؤلاء في سبيل الحصول علي مغانم أكبر من حصة القيادة الفلسطينية. ذلك كله مرتبط بمدي قدرة حصول عباس علي نتائج في محادثاته مع الإسرائيليين والأمريكيين إذ سيكون من الصعب علي الرئاسة وحكومة الطوارئ ان تشق طريقها بدفع الرواتب فقط يمكن لذلك أن يعطيها فرصة بقاء محدودة لكن ليس إلي ما لا نهاية. وإلي حين ظهور نتائج مسابقة الفوز بالقيادة الفلسطينية لن يعرف أحد بالتأكيد كيف سيكون الشكل الجديد لهذه القيادة لكن الأمر الحتمي ان إسرائيل ستكون قد فازت بنتيجة ادعاء ان النزاع مع الفلسطينيين ليس مرده الاحتلال بل الفلسطينيين أنفسهم.