لا يوجد هناك خطر مائل من الصواريخ الإيرانية، أو تهديد نووي إيراني وشيك، أو علي الأقل لا تلوح في الأفق إمكانية تبلور ذلك الخطر قبل عقد من الزمن. فالمشكلات والتعقيدات المرتبطة بعملية تطوير الصواريخ، وصناعة الرؤوس النووية، وتصغير حجم تلك الرؤوس، ثم معالجتها لتناسب الصواريخ المتاحة، فضلاً عن اختبارها وتصنيعها علي نطاق واسع، كلها اعتبارات تجعل أي حديث عن تهديد الصواريخ النووية الإيرانية لأوروبا مجرد حبكة غير مقنعة لرواية رخيصة لا يمكن أن تنطلي علي القارئ. لكن مع ذلك انخرطت وكالة الاستخبارات المركزية وبعض الأجهزة الحكومية في ترديد نفس الادعاءات علي مسمع من العالم، فلماذا تمتنع إدارة الرئيس بوش عن الاستماع إلي الحقائق؟ فالرئيس بوتين يدرك جيداً أنه لا وجود لخطر إيراني علي أوروبا، فحتي لو كانت روسيا قد خسرت الحرب البادرة، لكنها مازالت تتوفر علي جيش من العلماء والمهندسين الذين يخبرونه بحقيقة الأمر. وما دام الأمر لا يخلو من تهديد إيراني لأوروبا كما تعرف روسيا ذلك جيداً، يتساءل المسئولون في موسكو عن الدوافع الحقيقية لإقامة نظام دفاعي مضاد للصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك. وبحسب رأيهم ليس هناك من هدف سوي تعزيز السيطرة الأمريكية علي أوروبا الشرقية وإظهار تفوق القوة الأمريكية علي الساحة العالمية. لكن بوتين لم يفوت فرصة لتوضيح موقف بلاده، حيث اشتكي في العديد من المناسبات بأن روسيا وإن كانت تفهم وضعها الجديد، وبأنها لم تعد قوة عالمية، إلا أنها ليست مستعدة، لأن تكون مجرد تابع لواشنطن تأتمر بأوامرها وتنصاع لإملاءاتها. ولئن كانت روسيا تقبل الريادة الأمريكية في العالم، كما أوضح "بوتين" ذلك، إلا أنها تحتاج إلي الضبط وتوخي المزيد من الحذر، محذراً الأمريكيين من أنهم قد يتحولون إلي "فاعلين سيئين" في العالم بنفس الدرجة التي كان عليها قادة بلاده خلال فترة الاتحاد السوفييتي. ولتفسير موقفه أحال بوتين إلي النظام الديمقراطي الأمريكي الذي يقيم توازناً دقيقاً بين مختلف السلطات، وهو ما يتعين برأيه أن يطبق علي الساحة الدولية، بحيث تلعب روسيا دوراً أساسياً لموازنة القوة الأمريكية. ومن ناحيتنا علينا ألا نستهين بتصريحات الرئيس بوتين وأن نأخذها علي محمل الجد. فروسيا تظل قوة نووية مهابة الجانب، وهي أكثر من ذلك تسبح في عائدات النفط كما لم تفعل من قبل، لذا فإن قدرتها علي ممارسة الشغب علي الساحة العالمية هي في تزايد مستمر. وبعد أن كانت بولندا والتشيك تدوران في فلك الاتحاد السوفييتي لسنوات عديدة، أصبحتا اليوم عضوين في حلف شمال الأطلسي، الذي كان الروس يعتبرونه في السابق أكبر تهديد لأمنهم طيلة خمسين عاماً. ولا ننسي أيضاً أن بوتين نفسه ترعرع في كنف جهاز الاستخبارات الروسي "كي.جي.بي" وكرس حياته لحماية الاتحاد السوفييتي من حلف شمال الأطلسي. فكيف نريد لبوتين وروسيا أن يقرا إقامة نظام مضاد للصواريخ علي الحدود الروسية ضد تهديد إيراني غير موجود؟ ورداً علي مشروع نظام الصواريخ الأمريكي أعلن "بوتين" خلال هذا الشهر أن المضي قدماً في المشروع الموجه ضد روسيا، سيقابل بإقامة صواريخ روسية قبالة أهداف أوروبية. ولاشك أن الغضب الذي يدفع إلي اتخاذ قرارات خطيرة، كالتي أعلن عنها بوتين يهدد مستقبل البشرية، لاسيما وأن روسيا مازالت تحتفظ بالعديد من الرؤوس النووية القادرة علي الوصول إلي أهداف بعيدة، قد تطال أوروبا والولاياتالمتحدة. والواضح، من خلال تصريحات "بوتين" المشحونة بالغضب والاستياء، أن روسيا منزعجة من النظرة الأمريكية، التي تفتقد إلي الاحترام. ففي العاصمة التشيكية "براغ" أشار بوش إلي الرئيس الروسي باسمه الأول فقط "فلاديمير"، وهو أمر لست متأكداً أن الرئيس بوتين كان يرغب في سماعه من بوش خلال مؤتمر صحفي عقد بدولة تعد حليفة للولايات المتحدة. فلو كان بوش يقيم وزناً للعلاقات مع روسيا ومع رئيسها لما اكتفي بالإشارة إلي بوتين باسمه الأول، فعلي كل حال يتعين عدم المس بمكانة الدول، أو رؤسائها. وفي ألمانيا حيث عقدت قمة الثماني، اقترح بوتين أن يتم تغيير موقع الدرع الصاروخية إلي أذربيجان، كما أكد علي رغبة روسيا في أن يقام النظام الصاروخي علي أسس شفافة. وإذا ما التزمت الولاياتالمتحدة بالشفافية المطلوبة واهتمت أكثر بالمخاوف العالمية فإن روسيا ستكون مستعدة للتعاون في هذا المجال. ومن جانبه رد بوش بأن المقترح الروسي جدير بالاهتمام ويستحق الدراسة المتأنية، وهو ما يفتح المجال إلي استئناف سياسة متوازنة بين الطرفين. وختاماً علينا ألا ننسي أن التاريخ لم ينتهِ بعد، كما يروج اليوم، بسقوط الاتحاد السوفييتي؛ فالعالم مازال معرضاً لأخطار محدقة بسبب السلاح النووي، والشعور بالعظمة لدي البعض أكثر من خطر التطرف الإسلامي. لذا يتعين علي القوي النووية التعامل مع بعضها بعضاً علي أساس من الاحترام والمصالح المشتركة، وليس هناك من سبب يدفع الولاياتالمتحدة إلي إهانة أعدائنا السابقين وحلفائنا الحاليين، بل من الواجب التعامل بحرص وتوخي الحذر!