يروي أن مدحت باشا عين واليا علي العراق من قبل الخليفة العثماني جمع أعيان بغداد واقترح عليهم زيادة الضرائب علي الشعب لإصلاح المرافق المهترئة فأثنوا جميعا علي الفكرة الحكيمة. فكتب كتابا إلي الباب العالي في تركيا يستأذن في فرض الضريبة ويخبره بموافقة الأعيان العراقيين علي ذلك ووقعوا جميعا علي الكتاب، وأوهمهم بإرساله إلي مقر الخلافة، وبعد أيام جمعهم مرة ثانية وأخبرهم أنه راجع نفسه في القرار السابق ولام نفسه نظرا لفقر الناس وحاجاتهم، الأمر الذي يجعل فرض ضرائب جديدة عبئا ينوءون به، ولذلك اقترح إرسال كتاب آخر إلي الباب العالي يلغي طلبهم في الكتاب الأول، فأثنوا جميعا علي الرحمة والشفقة والإنسانية التي يتحلي بها الوالي الكبير، فكتب كتابا بالمعني الثاني وجمع توقيعاتهم جميعا عليه، وهنا أخرج لهم الكتاب الأول، وقال لهم: أين أنتم من هذين الكتابين، ولقنهم درسا في الرجولة وحرية الرأي والاعتداد بالنفس والتمسك بالحق، وألا يكونوا إمعات وذلك عملا بقول النبي صلي الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم". قفزت هذه القصة إلي ذاكرتي عندما اقترح الرئيس تعديل 34 مادة من الدستور علي نحو معين فانطلق أساطين القانون الكبار يمتدحون الحكمة الملهمة والإلهام الحكيم، ويصوغون المواد علي النحو الذي يرضي فخامة الرئيس وتبعهم في ذلك القانونيون الصغار والسياسيون والنواب والصحفيون والإعلاميون أعضاء الحزب الوطني الطامحون والطامعون. وخاضوا معارك عنيفة ضد قطاعات كثيرة من الشعب، حتي أقرت التعديلات في استفتاء علم الجميع كيف افتقر إلي النزاهة والأمانة شأن جميع الاستفتاءات التي شهدناها طيلة نصف القرن الأخير. ثم انطلقت العدة التشريعية تفرز قوانين جديدة بسرعة البرق تطيح بالهامش الضيق الباقي من الحريات والحقوق والعدالة واستقلال القضاء، فصدرت قوانين الأحكام العسكرية ومد سن القضاة ومازالت قوانين مباشرة الحقوق السياسية والإرهاب تحت الإعداد رغم الاعتراض الشعبي الكبير علي محتواها. وليس بالضرورة أن تكون العاقبة في صورة تدمير ظاهر، فقد يكون التدمير في صورة غير مباشرة انهيار داخلي لما حدث في حالة تفكك الاتحاد السوفييتي وضعفه وتراجعه، وكما هو محسوس وملموس في مصر الآن فقدان الانتماء والولاء والحب وفقدان الرغبة في العمل والإنتاج وانتشار الفقر والبطالة وتدهور المرافق والخدمات والتعليم والبحث العلمي وشيوع الجريمة والخوف وتردي الأخلاق وسريان الفساد في كل مؤسسات الدولة رغم تحولها إلي دولة بوليسية تحولت الشرطة فيها إلي جرار مطلق الصلاحيات ضخم الإمكانات يستنفذ الجزء الأكبر من ميزانية الدولة إضافة إلي تراجع مكانتها الإقليمية والدولية، وتحولها إلي دولة تابعة تأتمر بأوامر أعدائها. فما فعلتموه أيها المتملقون الكبار هو الذي أدي إلي ذلك، ومع ذلك مازلتم مصرين علي قيادة قاطرة البلد إلي تلك الهاوية السحيقة حرصا علي منافع شخصية ضئيلة وزائلة، مضحية بمصالح مصر الوطن والشعب. وإذا كنتم لا تعبأون بمصير الوطن والشعب، فلا ريب أنكم تهتمون كثيرا بمصائركم، ولكنكم للأسف الشديد لا تنظرون في مصالحكم لأبعد من مواطئ أقدامكم