يعد"محمد علي"(17691849م) مبتدع نموذج المركزية في الإدارة الحديثة في مصر، فقد كان يملك كل مفاتيح إدارة البلاد في يده من تخطيط، وتنفيذ، وأوامر، ومتابعة، ورقابة، وجزاء، كما كان يجمع بين السلطات الثلاث في الدولة، من تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، إلا انه علي الرغم من توزيعه للاختصاصات عبر تلك المركزية، فقد كان بما لا يسمح لغيره بالاستحواذ علي سلطة اتخاذ اي قرار حتي عبر القدر المتيقن له من السلطة الممنوحة، فتجلت موهبته الإدارية في حكم بلد لا ينتمي إليه ثقافياً، ولا يعرف لغة شعبه، وعلي الرغم من هذا تمكن في بلوغ نموذجه المتخيل عن نهضة هذا البلد، علي نحو دفع المراقبين للتاريخ لإغفال اي دور حضاري لأبناء هذا الشعب سابق علي مشروع "محمد علي" النهضوي، ولم يكن "محمد علي" يدير البلاد فقط من خلال تصوره الايتوبي لشكل الحكم، وإنما كان مدركاً تمام الإدراك عبر الأزمات التي مر بها حجم ونوعية القوي والعناصر المحيطة به، وكان يرسم سياسته وبرنامجه السياسي من خلال ذلك الإدراك، ولذا تتم قراءة أوامره التي أصدرها من خلال تصنيفها إلي أوامر داخلية تتعلق بإدارة مصالح البلاد من تعليم، وصناعة، وزراعة، وسن القوانين التنظيمية، وأوامر خارجية تتعلق بعلاقة"محمد علي" بالباب العالي، ومع الدول الأجنبية، وأوامر تتعلق بعلاقته مع المماليك، ومشايخ الأزهر في سبيل تدعيم حكمه. بين العرضحالات إلي الأوامر سبق وان عرضنا للشكاوي والعرضحالات التي كانت تقدم للوالي "محمد علي"( 1805م 1848م)، علي اعتبار كونها مؤشراً للاتجاه الذي يسير فيه الحاكم تلبية لرغبات المحكومين، فإن كانت نهضة عصر "محمد علي" تعزي إلي الشعب، فكانت العرضحالات مؤشراً علي ذلك، بيد أن هناك شقاً آخر لتلك النهضة؟ وهو الأوامر التي يصدرها الحاكم بعيداً عن تلبيته لرغبات مواطنيه، فتلك الأوامر هي المعني الحقيقي للنهضة كما كانت في عقل الحاكم، ولم تكن البلاد قد اختمر فيها مفهوم الملكية العامة من ناحية، ومفاهيم الفصل بين السلطات من ناحية أخري، هذا فضلا عن غياب المفاهيم التي من شأنها مشاركة الشعب في الحكم، اللهم من مجلس"بونابرت" النيابي، والذي لم يقدر له مباشرة أعماله، وتتجلي تلك الأوامر في كتاب"الأوامر والمكاتبات الصادرة من عزيز مصر محمد علي" الصادر عن"دار الكتب والوثائق القومية، وحدة البحوث الوثائقية" في مجلدين من القطع الكبير تحقيق د."أمينة عامر"، ود."عماد أبو غازي"، وآخرون، تحت إشراف د."رءوف عباس حامد"(1939 2008م)، ود."محمد صابر عرب" رئيس الهيئة العامة لدار الكتب، والوثائق القومية. مكان الأوامر في التاريخ يفتتح المجلد الأول بالفترة بأوامر"محمد علي" خلال الفترة التي أعقبت جلاء الانجليز عن مصر بحملة"فريزر" في العام 1807م، بالعريضة الصادرة إلي الأعتاب الشاهانية بتاريخ 1/4/1807م للشكر علي الرتب المنعم بها عليه، وعلي قواد الجيش مكافأة لما بذلوه في محاربة الانجليز، ومن بينهم"حسن باشا الأرنؤود"، والسيد"عمر مكرم"نقيب الأشراف، ويذكر انه كان مجموع جيش الدولة 230000نفر، والغرض من هذه العريضة هو رد، وشكر للفرمان الشاهاني الصادر ببقاء ولاية مصر لعهدته، حيث كان"محمد علي" خلال تلك الفترة يعمل علي دعم حكمه لمصر في مواجهة الباب العالي، ورغبته في إقصائه عن مصر، ومصارعته للمماليك، وتحسبه لمعاودة الغزو الاجنبي مرة أخري، وتبدأ هذه الأوامر بعد أن انتهي "محمد علي" من المرور بمحن كبيرة قاسية كان خلالها في يد القدر، وتمتد محفظة الأوامر حتي العام 1848م، اي حتي قبل وفاته بعام واحد. صادر ووارد المعية السنية كان"محمد علي" هو المحرك الذي يدير دولاب الإدارة في مصر، حيث كانت تلتقي كل الأجهزة الإدارية، بمشاكلها، وانجازاتها، عند"المعية السنية"، حيث تتلقي بعد ورودها الجهات أوامر الباشا، التي تحتوي علي القرار الواجب اتخاذه، أو قد يطلب الباشا المزيد من التفاصيل، وقد كانت الأوامر تصدر من الباشا باللغة التركية، وكانت تصدر الأوامر لمشايخ القري والعمد والاهالي باللغة العربية، ولذا كان هناك صادر المعية السنية عربياً، وصادر المعية السنية تركياً، ووارد عموم المعية، وجهاز اداري للترجمة، وقام الملك"فؤاد الأول" عقب تأسيسه ل"دار الوثائق الملكية" بقصر عابدين في العام 1925م، بترجمة كل أوامر"محمد علي" إلي العربية، وتحتوي هذه الأوامر علي حركة المراسلات من أسفل الهرم الاداري إلي قمته، فقد كانت المكاتبات الواردة من الجهات الرسمية تسمي"جرنال"، والمكاتبات الصادرة من الباشا تسمي"بيورلدي"، كما تحتوي علي الكثير من المصطلحات الإدارية التي لاتزال مستعملة إلي اليوم، مثل"صاحب الشأن» و"المذكور" و"المسطر" و"الإفادة". محمد علي والمشايخ كان المشايخ قد توهموا أن من حقهم مشاركة"محمد علي "في الحكم وعلي رأسهم الشيخ"عمر مكرم"، بل ان "عبد الرحمن الجبرتي" صرح بأن الظلم والطغيان هما شيمتا الحكم الذي أقامه الباشا، فاستلزم الأمر لدعم الحكم استئصال هذه المقاومة فنجد الأمر رقم 15 الصادر في 15 شعبان سنة 1224ه/ 26 سبتمبر 1809م، يطيح بالسيد"عمر مكرم" مستأذناً الباب العالي في تركيا في عزل نقيب الأشراف، وذلك حسب الإفتاء الشرعي حيث ادخل مجموعة من الأقباط في سجل الأشراف؟! ويرشح"محمد علي" الشيخ "السادات" بدلاً منه، الذي تعاون مع المشايخ "الدواخلي"، و"المهدي" لكتابة مثالب"عمر مكرم" علي النحو الذي يريده الباشا، حتي أن"الجبرتي" اسماهم"مشايخ الوقت". محمد علي والباب العالي تعكس هذه الأوامر شكل العلاقة المتقلبة بين الباشا، والباب العالي حيث أدرك الباب العالي تعذر إبعاد"محمد علي" عن حكم مصر، فضلا عن ضغط الباشا علي الباب العالي في سبيل توريث الحكم بقدرته علي كبح عصيان الوهابين، وثورتهم في الحجاز، ووقف إغارتهم علي أملاك الدولة العثمانية في الشام والعراق، فنراه في بداية حكمه كان يستأذن الباب العالي في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، إلا انه لم يكف عن مراوغة الأتراك حيث يصدر المكاتبة رقم 21 في 7جماد آخر سنة 1225ه بشأن قيام"الأمراء المصريين الفراعنة" بالعصيان لأنهم يرفضون أن يكونوا تحت حكم الدولة العثمانية، والأمر كله لا يعدو تلكؤاً من "محمد علي" ليتفاقم الوضع في الحجاز، ويتدخل في الوقت المناسب، فيشعر الباب العالي بقيمته، وربما كان يتطلع لاحتلال العراق فقد أصدر الأمر رقم2075 في غرة ذو القعدة سنة1250ه/1835م إلي"باغوص بك" بإرسال خريطة بجهات نهر الفرات، وما حوله، إن كانت موجودة طرفه، وإلا يبحث عنها ويرسلها كما هو مطلوب. مذبحة القلعة تعكس هذه الأوامر خطة"محمد علي"للانفراد بالسلطة، بعد قضائه علي المشايخ، في شق صراعه مع المماليك، فالبكوات المماليك شوكة في جانبه طالما لا يعترفون بحكمه، ومع وعد الباب العالي بجعل حكم مصر له وراثياً إذا أرسل جيشه لقتال الوهابيين، فكان عليه أن ينزل ضربة ساحقة بالبكوات المماليك، بمذبحة القلعة التي ذكرها "الجبرتي" تفصيلاً في حوادث يوم الجمعة أول مارس 1811م، الموافق 5 صفر 1226ه ، ويرسل"محمد علي" كتابه إلي الصدارة العظمي بعد أربعة أيام من المذبحة تحت رقم36، مضمونه انه تمكن من جمع الأمراء المصريين المماليك بحيل إلي داخل القلعة، وإعدامهم جميعاً، ويردف كتابه انه ترك جثثهم في ميدان القلعة لثلاثة أيام، وسيرسل رءوسهم بعد ذلك إلي السلطنة السنية. الزراعة كان"محمد علي" يعاني من صعوبة في تنفيذ سياسته الزراعية باختيار القطن ليكون المحصول الأكثر شيوعاً للبلاد، وكأنه يسير ضد إرادة الفلاحين، فقد علم من خلال إخطار مدير الغربية بقيام احد الاهالي بتقليع مزروعات القطن في حيازته، وزراعته بدلاً منها ذرة، فأصدر الأمر رقم2252 في العام 1251ه بإرساله إلي الليمان تربية له وعبرة لغيره، ولكل من يتجاسر علي فعل ذلك، وعمم هذا الأمر إلي كل مديريات الوجه البحري، كما انه يعترض علي قطع أذني، وأنف النفر الفلاح الذي وجد يقلع شجر القطن في مديرية البحيرة، قرية بولين، فيري أن هذا الجزاء متواضع، حيث يجب إرسال من يفعل ذلك إلي الليمان، أو إعدامه، وليس قطع أذنيه وأنفه، كما يتم تأديب أصحاب الأقطان الذين وجدت أقطانهم عطشانة، وكذلك إصداره للأوامر لعموم المديريات البحرية بعمل شتلات من أشجار التوت، وحصا اللبان وبيعها للاهالي ومتابعة زراعتها بموجب تفتيش المعاونين عليها وإخطاره بحالتها، كما في الأمر 2474. الثروة الحيوانية والدعم كان "محمد علي" يتابع المضابط التي تتحرر بناء علي اجتماعات مجلس الخديوية، حيث تلاحظ له إقرار المجلس زيادة أسعار اللحوم بمبلغ خمسة فضة علي رطل اللحم الضأن، وميدي واحد علي اللحم الخشن، فقرر اعتماد ما قرره المجلس من اجل تثبيت أسعار اللحوم بعدم مشاركة المتعهدين للجزارين، واشتغال كل شخص بصنعته، وعدم التصريح مطلقاً بذبح الإناث من البقر، والأغنام، والماعز، ما لم يكن طاعن في السن، كما يكشف الأمر 2480 علي استيراد المواشي من الأقاليم السودانية والبالغ عددها إحدي عشر ألفاً وكسوراً، وإصداره التعليمات لمديري الأقاليم الوسطي، والقبلية في وقاية تلك المواشي، وصرف علايفهم، وبإطلاعه علي المضبطة الواردة من كاشف أفندي الإسكندرية، تلاحظ له طلب طايفة الفرارجية تكوين رابطة لهم، وذلك لقدرتهم علي تثبيت أسعار الفراخ ببيع الدجاجة بثلاثة قروش، ودفع قرش واحد للميري ضريبة للمحتسب، وكذا المائة بيضة بثمانية قروش بدلا من تسعين فضة، إلا أن"محمد علي" استعلم عن الأسعار السابقة فوجد أن الدجاجة ثمنها بين 55، و 60 فضة، والمائة بيضة بقرش و3فضة، فأمر بتثبيت هذه الأسعار، وان امتنع الفرارجية عن البيع بهذه الأسعار يفاد، ثم يصدر أوامره بالدعم لأول مرة في تاريخ مصر فيقرر صرف الفرق اللازم من الأموال الميري العامة لتعويض تجار الفراخ، ولكنه هنا كان يدعم المنتجين، والتجار، وليس المستهلكين، ويأمر بحساب ما يكفي لذلك في مدة سنة واحدة لأنه لا يرضيه الضرر أو الخسارة. وكالة الحمير وإدارة أملاك الدولة علي الرغم من أن الملكية العامة لم تكن قد تبلورت بمفهومها المعاصر، إلا أن إدارة"محمد علي" للبلاد كانت تعكس البشائر الأولي لهذا المفهوم، وهذا ما يعكسه الأمر رقم 2433 الصادر في 23 رمضان سنة 1251ه إلي مأمور ديوان الإسكندرية، والذي سبق استعلامه عما يتبع في شأن وكالة الحمير التي أمر الباشا بهدمها، واعادة بنائها، حيث رفض ملاكها بيعها بأقل من مائة قرش، علي أن يتم هدمها وإعادة بنائها علي نفقة الميري خزينة الدولة، ويتم إعطاؤهم ربع ما يتحصل منها سنوياً، فوافق الباشا علي ما تم الاتفاق عليه، مع صرف أثمان الأحجار والجير، والأخشاب، والأجر من الميري، وكذلك الأمر رقم 2429 في 29 رمضان سنة 1251ه لمأمور الإسكندرية بشأن نقل المقابر الموجودة بداخل البلدة، وعمل مدافن لسائر الملل خارج أسوار المدينة، ووقف الدفن في المقابر القديمة. الرقابة الإدارية كانت قرارات"محمد علي" تصدر ليست مشفوعة بآليات تنفيذها فقط، وإنما بوسائل الرقابة علي التنفيذ، فأصدر الأمر رقم 2245في 21 ربيع آخر لسنة 1251ه بشأن عدم إخراج الأحجار القديمة، وما يماثلها من الآثار، الكائنة بالأقاليم الصعيدية، وتنبه علي النظار والمديرين تنفيذه، إلا انه عين"صبا أفندي" كأول مفتش للآثار بمصر، يقوم بالمرور في ذهبية باخرة نيلية للتفتيش، منعاً لاستخراج الآثار وبيعها للأجانب، كما انه تابع موضوع خلع أشجار القطن، عن طريق مفتش فبريقات البحيرة، والذي صحح ما سبق وأرسل إليه من قيام احد الفلاحين بقلع القطن غير مطابق للحقيقة، وانه قام بالمرور بالزراعات القطنية فقط، فوجه اللوم إلي مدير البحيرة الذي اعتمد علي كاتبه في تحرير الجرنال الإخطار دون تلاوته عليه بعد تحريره، فنبه عليه بضرورة الإطلاع علي الإخطارات الصادرة قبل إرسالها، وإلا كان جاهلاً بالكتابة، ثم يصدر أمراً عاماً برقم 2447 في 10شوال سنة تاريخه إلي عموم مديري، ونظار الأقاليم المصرية، يفيد ما حدث من مدير البحيرة، وينبه علي الجميع بضرورة تلاوة "الجرانيل" قبل التوقيع عليها، حتي لا ينتج أذية، وتأخير الصالح العام، ثم هددهم بضياع مزايا الوظائف. لا شك أن أوامر"محمد علي" مازال أمامها الحقل خصباً للبحوث، والدراسات، التي تكشف ليس فقط طريقة حكم البلاد خلال تلك الفترة، وإنما دراسات لشكل الحياة وعادات، وطبائع المصريين وقتها، وكذلك الدراسات اللغوية التي تتعلق بتطور الأساليب الإنشائية في الدواوين الحكومية، فهذا الجمع لتلك الأوامر وطباعتها يعد عملاً مميزاً قامت برعايته دار الكتب المصرية.