لا اعرف لماذا شعرت بغصة في حلقي وانا اقرأ خبر اتمام صفقة بيع عمر افندي وتخصيص خمسين مليون جنيه لاحالة الموظفين للمعاش المبكر.. خمسون مليون جنيه لزيادة عدد العاطلين في مصر!... في طفولة كل منا ذكريات مع عمر افندي وسلالمه الكهربائية ومنذ سنوات فرحنا كثيرا بعمر افندي احمد عرابي الأنيق والحديث والذي كان يجذب عددا كبيرا من الزبائن المصريين والاجانب. أحسست وأنا اقرأ خبر البيع انني انا شخصيا اتهمت بالفشل في ادارة مشروع وطني استثماري مربح وعوقبت انا والوطن بأن اخذوه منا واعطوه لمن يمتلكون المال ويستوردون الخبرة فينجحون نجاحاً باهرا، وسيدفع لهم المستهلك المصري فاتورة نجاحهم وفاتورة الفشل المصري. لا اعلم لماذا سأحزن كثيرا عندما اري عمر افندي غير المصري في ثوبه الجديد، رغم انني مع التحرر والتقدم الاقتصادي والفكري لنهضة الوطن المكبل بالبيروقراطية التي افرزت موظفاً مصرياً كسولاً، مراوغاً، منافقاً ومرتشياً... هيا نحلل الكلمات الأربعة واسبابها: لماذا كسول؟ لانه في اغلب الجهات الحكومية يتساوي الموظف المجتهد بالموظف الفاشل وعندما يحاول احدهم اصلاح ما افسده الدهر يتآمر عليه زملاؤه ولاسيما ان كان رئيسه في العمل غير كفء وترقي بالاقدمية ويفتقد المهارة والرؤية الادارية لذا سيقلقه تميز اي مرءوس لديه فتكون النتيجة احباطات ومضايقات واذا لزم الامر الايذاء المباشر والتخلص منه، هذا بالاضافة إلي السبب الرئيسي المعروف لنا جميعا وهو "ان مرتبات الحكومة ضعيفة جدا بالنسبة للمعيشة الغالية جدا". فالموظفون إما نساء يذهبن للعمل ساعات معدودات ويتسابقن للعودة للمنزل لأنها الموظفة راضية بالمرتب الضئيل من مبدأ "النوايا التي تسند الزير" وفي نفس الوقت تتنفس اجتماعيا ولو قليلا، هذا بخلاف ان هناك اعباء منزلية يومية تنتظرها ولن يقوم بها سواها، وهناك مبدأ آخر سائد الا وهو "علي قد فلوسهم" وصحيح ان العقد شريعة المتعاقدين وطالما ان الموظف قد رضي بهذا العمل فلابد ان يخلص له، ولكنني اتحدي ان يقبل العمل بهذه الملاليم احد المتميزين العاملين في احدي الشركات الاستثمارية أو الاجنبية من مبدأ العمل من اجل الوطن أو لوجه الله، والنتيجة تكون ان من لم يؤهل باللغات والكمبيوتر والواسطة لدخول عالم المرتبات "الجامدة" فهو ان حالفه الحظ قد يصبح موظف حكومة وفي اغلب الاحوال سيكون موظف حكومة بالنهار وسائقاً أو نقاشاً أو مدرساً او محاسباً الخ بعد الظهر وذلك ليستطيع ان يتفادي الرشوة أو السرقة أو.. الفقر. لماذا مراوغ؟ لأنه لابد ان يتفادي كذب ومكائد الاخرين لدي مديره حتي لايفهم اجتهاده فهما خاطئا، كما يجب عليه ان يحيك الخطط ويحاول تصيد اخطاء للآخرين يحمي بها نفسه حتي ينجو من الشئون القانونية والنيابة الادارية. لماذا منافق؟ هذه صفة أساسية في الموظف الوصولي حتي يكسب ود رئيسه وينجو من تعكر صفو مزاجه العالي حتي انتشرت جملة تهكمية تقول "احلام سيادتك أوامر"، والنفاق يكون بالهدايا وبالإسهاب في سب من يكره وتأليف قصائد شعر في عبقريته كما كنا نري في الافلام القديمة، قصيدة مدح لكل مدير جديد للادارة وقصيدة وداع عند رحيله تم استبدالها الآن بدعوات له أو عليه حسب كم الود والتفاهم أو القهر والظلم المتبادلين بين المرءوس ورئيسهم. والنفاق له منافع كثيرة، فهو يؤدي لزيادة المكافآت والتغاضي عن التأخير والتغيب وللترقي السريع وفوائد اخري عديدة رغم أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.. آمين يارب. لماذا مرتش؟ تمنيت كثيرا أن ترحم الدولة المواطن والموظف من عذاب الرشوة ولكن لم يأت حتي يومنا هذا وزير جهبذ يفرض رسما رمزياً وليكن جنيهاً أو خمسين قرشا علي الادارات التي تتعامل مع الجمهور ويخصص العائد كمكافأة شهرية للعاملين سواء المحتكين مباشرة مع الجمهور أو المسئولين عن سرعة انجاز الأوراق اللازمة وتعلق في مكان واضح يافطة كبيرة تقول: من لديه شكوي أو من طلب منه دفع رشوة يتصل بهذا الرقم أو يذهب لمقابلة المسئول في المكان التالي... ويتم عقاب من يعرقل سير العمل وحبس من يتقاضي رشوة، وهكذا سيتحسن دخل الموظف ونرحمه من حالة انفصام الشخصية التي كان يعيشها فهو في اعماقه يشعر انه سارق ومرتش ولكن يحلل الرشوة بضآلة مرتبه ويصبح موزعا بين عذاب الضمير وبين الخوف أن يضبطه احد متلبسا فيضيع مستقبله. أتحدي ايضا ان يوافق أي مسئول كبير علي أن يبدأ ابنه السلم بمرتب الحكومة الذي يبدأ ب 200 أو 300 جنيه رغم ان هذا المسئول كون ثروته من خير هذا البلد ومعه من المال ما يكفي لمساعدة ابنه علي حياة رغدة وفاخرة، ولكن كبار وأغنياء الوطن لن يضحوا بأبنائهم بعد أن علموهم في الخارج أو في الجامعات الفاخرة ولن يسمحوا ببهدلتهم في الحكومة واحتكاكهم بمجتمع الميكروباصات والتي تفوح منه رائحة الكفاح وضيق ذات اليد. نعود لعمر أفندي.. كانت لي معه قصة شخصية، ذهبت في رحلة من رحلات يومية لأمهات كثيرات وهي توصيل ابنتي للدرس (ثمن آخر يدفعه المواطن مقابل الفشل التعليمي المتزايد)، كان مكان الدرس بجانب فرع لعمر افندي فقررت أن أدخله لتمضية الوقت ففوجئت بعدم وجود زبائن تقريبا وعرفت السبب عندما وجدت ذوق البضائع رديئاً والمكان يبدو مهملا ومتربا والعاملون مرهقون وبؤساء واسعار البضائع ليست أقل من مثيلتها التي تفوقها جودة في أماكن أخري، كان لدي وقت كثير فتفقدت المكان جيدا دون شراء أي شيء بالطبع وعند الخروج لم أتمالك نفسي ووجدتني أدخل مرة أخري وأسأل من وجدته أمامي عن مدير الفرع فأجابني: أنا لماذا؟ فقلت له ألم تلاحظ أن المعروض ذوقه متدن وأن المحل لا يوجد به زبائن تقريبا فقال بنبرة واثقة" "هذا قد يكون ذوقك ولكن ألا تسمعين عن المثل القائل "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع" فأجبته: ولكنني لا أري أحدا غيري في المحل والمعروضات تبدو قديمة وباهتة فجادلني قليلا ثم تراجع بعد اصراري وقال: أنا دوري يقتصر علي تنظيم العمل في الفرع، هناك مسئولون كبار هم الذين يتعاقدون مع الشركات المختلفة علي البضائع التي تعرض في الفروع.. أنا عبد المأمور منفذ للأوامر وفي الأول والآخر أنا مجرد موظف لا يؤخذ رأيي في شيء، ولو اقترحت شيئاً قد يغضب هذا المسئولين الكبار وأتعرض لمشاكل أنا في غني عنها ولو كان الموضوع داخل فيه مصالح ومحسوبيات سيمثل بجثتي... قلت في عقلي بل بسببكم سيمثل بجثة عمر أفندي بل وبجثة كل موظفي البلد..