تصوروا ان أحد المحافل الدولية المهمة وقع اختياره علي مصري ليدير جلسة من جلساته التي تحضرها أهم الشخصيات العالمية وتنقل وقائعها اكبر الفضائيات ووكالات الأنباء .. ثم يتم الاعتراض علي الشخص "المصري " الذي اختاره هذا المحفل الدولي . أليس من حقي وحقك ان يكون أول ما يتبادر الي أذهاننا ان وراء هذا الاعتراض علي الشخص المصري مؤامرة من جانب دوائر أجنبية معادية لمصر؟! لكن ماذا لو اكتشفنا ان الجهة التي اعترضت علي هذا التكريم لمصري، قبل ان يكون تكريما للشخص الذي تم اختياره لإدارة الحوار في هذا المحفل العالمي ، هي الحكومة المصرية نفسها؟! لا أتحدث عن مسألة افتراضية ، وانما أتحدث عن مسألة واقعية حدثت بالفعل. واليكم التفاصيل . في الاجتماع السنوي الأخير للمنتدي الاقتصادي العالمي الذي يجتمع في منتجع دافوس السويسري في نفس التوقيت كل عام، قام المنتدي بتوجيه الدعوة الي الزميلة لميس الحديدي لادارة الحوار في الجلسة المخصصة لرئيس الحكومة المصرية الدكتور احمد نظيف . وبطبيعة الحال فان ادارة المنتدي مثلما وجهت الدعوة الي " لميس" ، قامت بإبلاغ الدكتور احمد نظيف بالتفاصيل المتعلقة بالجلسة المخصصة له، سواء فيما يتعلق بمكانها وزمانها ، او شخصية من سيدير الحوار .. لكن إدارة منتدي دافوس تلقت رداً من الحكومة المصرية يعترض علي ان تقوم " لميس" بهذه المهمة! وإزاء هذا الرد المفاجئ لم تكتف إدارة منتدي دافوس بإبداء استغرابها من هذا الاعتراض ، وانما عادت لمخاطبة الحكومة المصرية لتبلغها بانها هي _ اي إدارة المنتدي _ التي تقرر مثل هذه الشئون الإدارية المتعلقة بتسيير جلسات الاجتماعات ، وليس للحكومة المصرية ان تدس أنفها في أمور لا تعنيها. وبالطبع فان إدارة المنتدي أبلغت " لميس" بهذه التطورات ، كما أبلغتها تمسكها باختيارها للقيام بهذه المهمة. وبعد أخذ ورد تلقت إدارة المنتدي رسالة من مكتب نظيف بموافقتها علي أن تقوم "لميس" بالمهمة. لكن " لميس" حسمت الجدل بالاعتذار عن عدم إدارة جلسة الدكتور نظيف . وعندما أعربت لبعض كبار المسئولين في الحكومة المصرية عن امتعاضها لهذا الموقف غير الودي وغير المفهوم، قيل لها ان الدكتور احمد نظيف لا علم له بهذا الاعتراض المنسوب اليه. وان المسألة برمتها ليست سوي خطأ بيروقراطي من أحد الموظفين بمكتبه! وهو عذر اقبح من الذنب، لان هذا التبرير- اذا ما كان صحيحاً _ يعني ان هناك فوضي في مكتب رئيس الحكومة، وان هذا التسيب غير المسئول يحدث في شأن مخاطبات مع جهات أجنبية ، فما بالك بالأمور المحلية ؟ ومن هو هذا الموظف الصغير، رجلاً كان او سيدة، الذي يسمح لنفسه بان يتخذ قراراً بالنيابة عن رئيس الوزراء ، دون الرجوع إليه، ويقوم بإبلاغه الي جهات دولية ؟! لذلك .. فان السيناريو الأقل سوءا هو افتراض ان رئيس الوزراء هو الذي اعترض علي قيام " لميس" بإدارة الحوار في جلسته، لسبب أو لاخر، سواء كان هذا السبب ذاتياً (كأن يكون راجعا الي انه لا يستلطفها او لا يستخف دمها او لا يحب سواد عيونها) ، او كان هذا السبب موضوعياً (كأن يكون راجعاً الي عدم اتفاقه مع آرائها وكتاباتها وأسلوب إدارتها للحوار) . لكن حتي هذا السيناريو الأقل سوءا يصطدم بعقبة أخري هي نظرة حكومة الدكتور احمد نظيف للصحافة والصحفيين . والواضح من تفاصيل هذه القضية المؤسفة ان الحكومة الموقرة تفضل صاحبة الجلالة " موالسة " تكتفي بترديد كل حرف ينطق به الوزراء وان تعقب علي هذه التصريحات " الميري " بكلمة واحدة هي " آمين " ، وتفضل الصحفي " المهاود" الذي لا ينسي نفسه او يتجاوز حدوده ويسأل الحكومة " ثلث الثلاثة كم" ؟! ورئيس الوزراء حر في ان يختار الصحيفة التي يتحدث إليها ، والصحفي الذي يحب ان يختصه بمقابلة او حوار. لكني لا أظنه حراً في ان يفرض ذوقه علي المحافل الدولية . فهذه المنتديات العالمية لها معايير أخري غير المعايير المعتمدة لدي حكومتنا الموقرة. ومحاولة فرض هذا الذوق الشخصي علي تلك الدوائر الأجنبية يكون لها تأثير سلبي في الخارج يضر بالحكومة المصرية قبل ان يضر احداً آخر. ولا أظن ان " لميس" قد خسرت كثيراً ، او قليلاً ، بعدم إدارتها للحوار في الجلسة المخصصة للدكتور احمد نظيف في دافوس . فلا هذه الجلسة تكتسب أهمية استثنائية (بدليل ان معظم المصريين لم يسمعوا عما جري بها) ، ولا منتدي دافوس بأسره يستحق كل هذا الاهتمام المبالغ فيه. فنحن نعرف ان هذا المنتدي يمثل _ في الأساس _ مجلس إدارة العالم ، أو حكومته السرية، وان الدول الغنية هي صاحبة الكلمة النافذة فيه، هي والشركات العملاقة العابرة للقوميات ، فهي التي تضع جدول الأعمال ، وهي التي تضع قواعد " الحوار "، بينما دول العالم الثالث تبقي كالأيتام علي مائدة اللئام. ولا يعني هذا انني أدعو لمقاطعة منتدي دافوس ، فالتواجد في اي محفل عالمي يمكن ان تكون له فوائده . وانما يعني هذا التحفظ الذي أشرت إليه بسرعة واختصار الا نبالغ في قيمة مشاركتنا في هذا المحفل ، وألا نغالي في توقع نتائج إيجابية يعتد بها من جراء المشاركة في مداولاته التي ليس لها صفة رسمية أو إلزامية . ويعني التحفظ ذاته ان مشاركتنا في دافوس لا يجب ان تكون علي حساب مشاركة اكثر تكثيفاً في محافل أخري اقرب لنا ولمصالحنا، مثل المنتدي الاجتماعي العالمي الذي يعقد بالتزامن مع دافوس في بورتو الليجري البرازيلية ، ومثل المحافل التي ترعي الحوار بين دول الجنوب بعضها البعض. لذلك.. اكرر ان " لميس" لم تخسر كثيراً او قليلاً باعتذارها عن عدم إدارة جلسة من جلسات منتدي دافوس ، لكن تبقي الحيرة من ان يضع رئيس حكومتنا رأسه برأس صحفي أو صحيفة، وان يفعل ذلك علي مرأي ومسمع من الاجانب ، وان يكون اعتراضه بالذات علي صحفية شابة اختارها المنتدي الدولي ذاته ضمن قائمته العالمية لقادة المستقبل ، فضلا عن انها لا تنتمي الي الجماعة "المحظورة" او حركة "كفاية" او اي حزب من أحزاب المعارضة ، بل انها كانت ضمن الفريق الاعلامي لحملة الرئيس حسني مبارك في انتخابات الرئاسة ، ولها برنامج حواري مهم في التليفزيون المصري " الرسمي". وبالتالي فانها عندما تعارض هذه السياسة او تلك من سياسات الحكومة فانما تفعل ذلك من موقع النقد المعتدل ومن موقع المتطلبات المهنية المتعارف عليها . ومع ذلك .. فان هذا الأداء المهني المتوازن لم يشفع ل " لميس" عند الحكومة ، مما يجعلنا نتساءل: ماذا كان مكتب رئيس الوزراء سيفعل لو ان منتدي دافوس رشح صحفياً منقوعًا في المعارضة من قمة رأسه الي إخمص قدمه، علماً بان هذا هو التقليد الشائع في معظم المنتديات المرموقة التي تسعي الي استجلاء جوانب اي قضية من خلال الحوار الساخن بين الأضداد، لكن يبدو ان حكومتنا تفضل الحديث مع نفسها ظنا منها بان اجترار رضاها عن ذاتها وتغزلها في نفسها كاف لإقناع الناس بانه ليس في الإمكان أبدع مما كان وان كل الأمور تمام. لكن .. هل كل الأمور تمام .. حقاً؟!