تطلق صفة المفكر عادة علي الشخص الذي يمتلك قوة الحجة والقدرة علي الإقناع أو علي أقل تقدير القدرة علي إشراك الآخرين في البحث والتحقق مما يطرح من أفكار.. ولا يجوز بأي حال من الأحوال الخلط بين المفكر والمكفر، حيث عانينا ومازلنا نعاني من آفة "المكفرين" الذين نصبوا أنفسهم بدون وجه حق، مفتشين في الضمائر والقلوب واتخذوا من الدين ستارا لبث الفرقة وإذكاء الفتن.. وقد سبق ورصدت في كتابات الدكتور محمد عمارة جهدا دءوبا لتكفير المسيحيين ونبهت بعض الأصدقاء العاملين في صحيفة الأخبار إلي ذلك وكانوا يشاركونني انطباعي حول كتابات الرجل وعلمت أن الجريدة تلقت شكاوي مماثلة من الدكتور عمارة الذي كان ماركسيا ومن حسن حظه أن أحدا لم يهدر دمه!! وقد أدهشه أن يسرع الدكتور عمارة بإلقاء مسئولية ما ورد في كتابه "فتنة التكفير" علي حجة الإسلام أبو حامد الغزالي والتنصل من المسئولية في هذا المجال ليس من "شيم" "المفكرين" وفي قوله إنه لثقته في الغزالي فهو لم يدقق في الفقرة الخاصة بإباحة دم غير المسلمين عذر أقبح من ذنب! فإذا كان الدكتورة عمارة، قد استسهل ونقل عن مؤلف آخر دون أن يكلف نفسه عناء التفكير فيما يمكن أن يثيره، موقف أو فكر الغزالي الذي كتب ما كتب منذ نحو ألف عام، فهي شهادة منه بأنه أقرب إلي المكفر منه إلي المفكر خاصة في مثل الظروف التي تمر بنا ويسعي فيها أعداء وطننا إلي تفتيته في إطار تفتيت المنطقة بأسرها وإعادة رسم خريطتها وفق مصالح الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبريطانيا.. ولقد حاولت أكثر من مرة وأنا أقرأ للدكتور عمارة، أن أفهم سر إصراره علي التطرق لموضوع الأقباط والاستماتة في "التدليل" علي أنهم ثلاثة ملايين علي أكثر تقدير مما يسهل معه علي ما يبدو إهدار دمائهم وباءت جهودي بالفشل باستثناء الهدف الوحيد المنطقي وهو إثارة فتنة طائفية، يستحيل أن تخدم الوطن أو الدين الإسلامي.. وبعد أن "وشي" د. عمارة بالغزالي وعقب موجة الاستنكار العارمة التي أثارها كتابه هذه المرة، أعلن أنه يعتذر للأقباط؟!.. وهنا لابد من التوقف والتشديد علي أنه علي الدكتور عمارة أن يعتذر للمسلمين قبل الأقباط وأن يعتذر لمصر الوطن وللشعب المصري الذي لم يفرق أي "عدو" في حروبه بين أحد من أبنائه وعندما تسقط القنابل والقذائف والصواريخ المدمرة وتطلق حممها، فهي أبدا لم تفرق بين مسلم وقبطي، وهي بالتأكيد لا تسترشد بأبحاث د. عمارة حول المناطق التي يتركز فيها الأقباط!! وأذكر عندما بدأت إرهاصات التوتر الطائفي في سبعينيات القرن الماضي، أنني كنت أبكي بحرقة وأنا في الغربة.. وقال لي زميل صحفي لبناني مهدئا من روعي لا تخافي.. فالكل يعرف أن الحروب الأهلية تنتهي بالضرورة بدون غالب أو مغلوب.. وكان ردي أن لبنان الحبيب والذي ابتلي بحرب أهلية، يتوزع فيه المتحاربون توزيعا جغرافيا بل إن الطوائف في لبنان لها لهجات مختلفة.. أما في مصر فيمكنك أن ترتاد عمارة سكنية فتجد شقة تحمل اسم محمد والمقابلة لها في نفس الطابق تحمل اسم بطرس.. أيضا فإن اللهجات في مصر تعبر عن المنطقة الجغرافية وليس الدين، فلأهل الإسكندرية لهجتهم وجميعهم مسلمون ومسيحيون يسمون الناصية "الأمة" وكذلك أهل الصعيد لا يمكن أن تفرق من حيث "السحنة" أو اللهجة بين مسلم ومسيحي.. فماذا يريد الدكتور محمد عمارة؟ وماذا يريد بوطننا من هم وراء الرجل؟.. وكيف سمحت وزارة الأوقاف بطبع مثل هذا الكتاب الذي يستدعي الكراهية والحقد والدم؟ وهل يكفي أن يؤكد د. زقزوق وزير الأوقاف أنه لن يسمح مستقبلا بصدور مثل هذه الأفكار التي تحمل إساءة للأقباط. ويضيف أن المؤلف خانه التوفيق في هذه الجزئية التي لم تتجاوز خمسة سطور؟! ليس المهم عدد السطور يا دكتور زقزوق.. إنما المهم والخطير هو ما تحتويه تلك السطور.. أيضا يقول وزير الأوقاف: لن نسمح بصدور أي كتاب يسئ للأقباط؟ ألا تري يا دكتور زقزوق أن مثل هذا الكتاب يسئ إلي المسلمين أيضا؟ ألا يعطي مثل هذا الكلام الدموي حججا لأعداء الإسلام ويشيع القلق وربما الفزع لدي فئة من أبناء مصر، ينص دستور البلاد علي أنهم متساوون أمام القانون ولهم نفس الحقوق الدستورية وعليهم نفس الواجبات.. وأخيرا هل لدي الدكتور عمارة خطة محكمة لإراقة دماء غير المسلمين في العالم كله والموزعين بين آلاف الديانات والمعتقدات؟ وهل الإسلام دين قتل وإراقة دماء أو أنه دين العقل والسماحة بدليل أنه دخل اليقين وسكن القلوب وأنار العقول في شتي بقاع العالم وبات يؤمن به وأقول يؤمن به أكثر من مليار نسمة ليس بفضل أساليب الدكتور عمارة أو حتي أفكار الغزالي ولكن بالاقتناع بهذه الرسالة السامية التي لا يخدمها بالتأكيد كتاب "فتنة التكفير" ولدينا تحديات تضعنا أمام خيار واحد. أن نكون أو لا نكون.. وبعد أن ننجح في أن "نكون" يمكن للمكفر الدموي أن يكتب ما يشاء.. اللهم إلا إذا شعر بأن إجماع الأمة والوطن يخالفه في التحريض علي الفتنة وينبهه إلي أن "التكفير" آفة لا تتناسب مع العصر لاسيما وأن الإسلام هو مصدر المبدأ العظيم "وجادلهم بالتي هي أحسن"، وأرجو أن تكون هناك وقفة من الدولة التي أكد أعلي رمز فيها وهو رئيس الجمهورية بعبارات رائعة وصادقة، يشاركه فيها جموع المصريين الذين يمثلهم وينطق باسمهم علي المواطنة وعدم التمييز بين المصريين مسلمين أو مسيحيين.. وحمي الله مصر وشعبها العظيم من التكفير والمكفرين