في البداية أقول انني من المعجبين بالأستاذ حسن المستكاوي الناقد الرياضي بالأهرام ليس فقط لأنه أفضل النقاد الرياضيين المصريين علي الإطلاق، أو لأنه لكثير من أبناء جيلنا امتداد لوالده العظيم الأستاذ نجيب المستكاوي، وإنما لأنه مثل والده يتمتع بثقافة عميقة تشمل المجتمع والسياسة وفي العموم أحوال الناس. وعندما يكون الحال كذلك، فإن الناقد المثقف لا يكف أبدا عن طرح الأسئلة التي تتوقف عند مفاصل الأشياء وأبواب الألغاز العظمي التي تؤرق التغيير، والتقدم، وفي حالة كرة القدم والرياضة عموما: الفوز! وفي عموده " ولنا ملاحظة" في الأهرام يوم الخميس 14 ديسمبر علق علي مباراة النادي الأهلي مع فريق إنترناسيونالي البرازيلي بطل أمريكا الجنوبية كان العنوان عاكسا لجوهر التعليق: "برأس مرفوعة ..!"، أما التساؤل الناتج عن المباراة والذي يخص تقاليد اللعب المصرية، وربما _ كما سوف يأتي- تقاليد الحياة المصرية كلها فقد كان: "ولكن يبقي أن فرقنا ولاعبينا لهما لحظتان لا أعرف لهما حلا. لحظة ما بعد التسجيل في مرمي المنافس، ولحظة ما بعد التسجيل في مرمانا.. لماذا نفقد التركيز في اللحظتين؟!". السؤال في ظاهره ليس مرتبطا بحالة فنية يتدرب عليها اللاعبون، أو أنها تقع في إطار المدرب جوزيه أو المهتمين باللياقة البدنية ولا بخطط اللعب، وإنما هي في الأساس حالة سيكولوجية عاطفية وجدانية وفي جوهرها كلها عقلانية وتسميتها كلها "التركيز". هي حالة من انضباط الأداء وتلاقي الشروط البدنية مع الموقف المتولد عن حالة تسجيل هدف أو المنية بهدف بحيث تتجاوب مع ما سوف يأتي من تطورات، أو بالأحري تغيير شروط اللعب بالنسبة للمسجل والمسجل فيه. فمن الطبيعي بعد تسجيل الهدف أن يتغير أداء الفريق المنافس وهو ما يعني الحاجة إلي تغيير أداء فريقنا أيضا لكي يتناسب مع اللحظة الجديدة، وهي لحظة يكرهها المصري بشدة سواء كانوا يلعبون كرة القدم أو جالسون كما هي العادة في مقاعد المتفرجين. وفي الحياة العادية فإن كل المصريين يكرهون الدروس الخصوصية، ولا يكف أحد منهم عن لعنة النظام التعليمي كله، ولكن ما أن تحل لحظة الحديث عن ضرورة التغيير حتي تجد تلك الحالة من التوهان وانعدام التركيز والتمني أن يصبح الصبح وقد نسي الجميع القصة كلها. خذ مثلا تلك الحالة المزمنة من لعنة الحكومة و" النظام" و" السلطة" التي تنتاب كل المصريين بصورة دورية أثناء اليوم أو علي مدار الساعة، ولكن إذا ما قررت التغيير ورفع يد الدولة الثقيلة عن كاهل والبعض يقول قفا المواطنين، سوف تجد فورا آلاف الناس يحتجون ويطالبون بمزيد من التدخل الحكومي. وهكذا. إنه الخوف من التغيير ومن لحظات الانقلاب من حال إلي حال، لأن ما يأتي بعد الهدف هو المجهول بعينه حيث يسود الشك وانعدام اليقين. ولا يوجد ما يرعب المصريين، في الملعب وخارجه، إلا هذه الحالة حتي عندما ترتبط بالنصر وتحقيق الفوز وتسجيل الهدف. إنها لحظة متأرجحة بين المعلوم واللا معلوم، وبين ما هو يقيني ومعروف بالضرورة، وبين ما هو فراغ هائل يفقد العقل وليس تركيزه فقط. ولا يخل الأمر من حالة عميقة من فقدان الثقة بالنفس، وعندما تسجل هدفا فإنك لا تعرف أبدا مع غياب التفكير العلمي أن ذلك ناجم عن الجهد والتدريب الذي حصلت عليه والعرق الذي بذلته، وإنما قد وقد هنا تفيد الشك يكون الأمر مرجعه إلي الحظ أو التوفيق. وفي العالم كله فإن الفائزين يرجعون فوزهم إلي التدريب والتجهيز والخطة، أما لدينا فيكفي أن تشاهد لاعبينا وهم يعلقون علي مباريات فازوا فيها حتي تجد حديثا عن أسباب غيبية كثيرة ومن بعدها وعلي سبيل تحصيل الحاصل يأتي ذكر جهود اللاعبين والجهاز الفني والإداري. ولا يقل عن ذلك أهمية فقدان الثقة في المستقبل، فالنصر والهدف الذي تم تسجيله هو حالة مؤقتة لا تعرف بعدها ماذا سوف يأتي من نوائب أو مصائب، ولذلك تجري المبالغة فورا في تهنئة الذات فتكون المسألة كلها أشبه بحالة الطفل الذي يتعلم المشي بينما يصفق لنفسه وللأهل لأنه نجح في تحقيق الخطوات الأولي. وهنا فإن المسألة قومية بامتياز، لأننا لا نعرف أبدا مع بعد الخطوة الأولي، فنكون أشبه بلاعب الشطرنج المبتديء الذي يعرف خطوة أو خطوتين علي رقعة اللعب، وبعدها يكون كل ما في الأمر سلسلة من المفاجآت. وعندما استهدفت الحكومة المصرية تحقيق معدلات عالية للنمو _ 6% مثلا- فإنك تجد حالة من الارتباك وفقدان التركيز، لأنك لا تعرف أبدا ماذا سوف يعنيه النمو بالنسبة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي سوف تتغير بالضرورة. وخلال العقود الماضية كانت الدراما المصرية هي أن تحقق قفزة إلي الأمام، أو تسجل هدفا، أو حتي مجموعة من الأهداف، ولكن يعقبها فورا سنوات من الركود لأن الصعوبات والعقبات والتغييرات التي ينتجها التقدم فيجري الناس فورا إلي ملاجئ ما تعودوا عليه من قبل. ويأتي تسجيل الهدف فينا كما لو كان تصديقا لنبوؤة تاريخية أن ذلك هو ما نستحقه أو نقدر عليه علي أية حال، ويكون الارتباك وانعدام التركيز ناجما عن الخجل هذه المرة لأن التهنئة بالذات والفرحة الزائدة كانت مبكرة للغاية. ولكن هناك ما يدعو إلي التفاؤل، فظاهرة النادي الأهلي، مع المقارنة مع ظاهرة نادي الزمالك، تضع بداية للتخطيط العلمي، والعلاقة بين العمل والمجهود والعرق والفوز، والاستفادة من الخبرة الأجنبية دون فخر جهول. وبينما يمثل نادي الزمالك أحوالنا في الماضي فإن النادي الأهلي يمثل مؤشرا لما يمكن أن تكون عليه أحوالنا في المستقبل. ولا يقل أهمية عن ذلك أن هناك إرادة ورغبة في الفوز وحب للنصر لدي الجمهور واللاعبين، وهذا في حد ذاته تقدم، وبقي فقط أن نعرف أنه حتي للنصر ثمن والمحافظة عليه لا تقل صعوبة عن الوصول له! [email protected]