لبنان هو "الحديقة الخلفية" لكل النزاعات الصغيرة منها والكبيرة، الداخلية منها والخارجية. وهذا الموقع ليس جديداً علي لبنان، سوي في حجمه وامتداداته، فهو كان طوال عقود طويلة "مختبراً" ناجحاً ومثمراً للقوي الاقليمية والدولية في "الحرب الباردة". وأمام هذا الواقع لا يعود السؤال: إذا أردت أن تعرف ماذا في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو في فرنسا عليك أن تعرف ماذا في لبنان؟ سؤالاً للتندر أو لإضاعة وجهة البوصلة في النقاشات الجادة، وإنما هو كما تؤكده التطورات والأحداث سؤال جدي يجب العثور علي اجابات له أكثر جدية وأكثر سهولة منه. لبنان المحاصر جواً وبحراً في عملية اختراق إسرائيلية فاضحة وواضحة للقرار 1701، اخترق بدوره جميع الدول المعنية منها به أو التي تحاول مقاربته. وإذا كان لبنان دائماً يتأثر أكثر مما يؤثر بما يحيط به، فإنه بعد 12 يوليو يبدو وكأن تأثيره قد تضاعف علي الآخرين، وإن كان هذا التأثير ليس ايجابياً علي طول الخط. "قبعات زرق" مشتركة وليس صدفة أن يكون الوضع اللبناني في قلب المناقشات الداخلية في الدول الكبري والاقليمية علي السواء، لكن بدلاً من أن يشكل هذا الحدث مسارات لصياغة "أفكار بسيطة لهذا الشرق المعقد"، فإن ما يجري يكاد يقذف ببراميل من الزيت والبارود علي النار المشتعلة أصلاً. ويشكل تواجد قوات غربية الي جانب قوات من دول إسلامية كبيرة ومؤثرة مثل أندونيسيا وتركيا، في قوات "القبعات الزرق" العاملة في لبنان تأكيداً ل"حوار الحضارات" وبناء السلام والاستقرار من خلال هذا التعاون المشترك، بديلاً لما يجري من محاولات لنقض كل ذلك وتثبيت شرعية "صراع الحضارات". خطورة هذا الخلط بين جميع القوي الإسلامية المحاربة عن حق أو ضلال، أنه يقود نحو مجابهات غير ضرورية وخطيرة علي السلام العالمي وهي ليست صحيحة ولا دقيقة ذلك أن الخبراء الذين يجمعون علي أن "القاعدة" ذاتها "لا ترقص علي نغم واحد، إذ لكل من فروعها أجندة خاصة بها"، فكيف إذاً بالجمع بين "حزب الله" الذي مهما جري الربط بينه وبين طهران ودمشق، تبقي له أجندة خاصة به تتعلق بتحرير الأراضي اللبنانية والأسري اللبنانيين في السجون الإسرائيلية وانطلاقاً من هذا الوضع الخاص، فإن فرنسا مثلاً ترفض رسمياً وضعه علي لائحة الإرهاب. لكن يبدو أن للضرورات الداخلية أحكامها، الي جانب ذلك فإن الالتزام غير المسبوق للولايات المتحدةالأمريكية بإسرائيل، دفع بالرئيس الأمريكي الي هذا الموقف وهو واضح من خلال الإشارة الي قصف المقاومة لشمال إسرائيل. ساركوزي المستعجل للخلافة وفي فرنسا، التي لا داعي لعرض مواقفها "الشيراكية" من لبنان والتي تكاد تصل الي حدود إدخاله في صلب الأمن القومي والترجمة الواقعية لكل المبادئ السامية التي يؤمن بها الفرنسيون حول الاستقلال والسيادة والحرية، فإن ذلك لم يمنع أيضاً من تحول لبنان الي نقطة ملتهبة في معركة الانتخابات الرئاسية. وما قاله نيكولا ساركوزي وزير الداخلية الحالي، والمرشح لرئاسة الجمهورية يؤكد ذلك. فساركوزي المستعجل جداً لخلافة جاك شيراك، والذي وصف دائماً بأنه قادر علي حرق المراحل ومن يحيط به للوصول الي ما يريد، ذهب بعيداً هذه المرة في حربه المفتوحة ضد شيراك والشيراكية من لبنان. "حزب الله"، هو "منظمة إرهابية برأي ساركوزي لأنه قصف شمال إسرائيل"، وبهذا التحديد يكون قد تقاطع مع مثاله السياسي الأكبر الرئيس الأمريكي جورج بوش لكنه ألحق أضراراً ببلاده وأمن أبنائه، كما لم يفعل ذلك أحد من السياسيين الفرنسيين من قبل. ففي الوقت الذي يصل فيه الجنود الفرنسيون العاملون في قوات القبعات الزرق، تباعاً مع رفاقهم من الأوروبيين الايطاليين والاسبان وقريباً الألمان، يقوم ساركوزي المستعجل للرئاسة الفرنسية والذي وضع لنفسه قاعدة ذهبية "أنا أو لا أحد" من اليمين الجمهوري، بوضع "قنبلة موقوتة" في حضن هذه القوات. أصوات اليهود والعرب والوضع علي تعقيداته فإنه بسيط في معطياته. فالمرشح ساركوزي الطامح كثيراً للفوز بأصوات الجالية اليهودية ودعمها الاقتصادي له، دون النظر الي الجالية العربية والمسلمة التي تتقدم نحو لعب دور أكثر تأثيراً في الحياة السياسية الفرنسية، يضع القوات الأوروبية وبخاصة الفرنسية أمام امتحان دقيق. فهي إذا لم تحارب هذه "المنظمة الإرهابية" فإنها تصبح "شريكة لها"، وإن حاربتها وقعت في فخ دموي هي بغني عنه. وإذا كان من حق ساركوزي أن يكون "معجباً بالأمريكيين، وصديقاً لهم" وأن يكون "طوني بلير" الفرنسي الذي يلحق باريس بواشنطن الي درجة احتجاج العاقلين من الأمريكيين علي سياسة بلير البريطاني، وإذا كان مستعداً لشطب تاريخ فرنسا الحديث الذي أرساه الجنرال ديجول بجرّة قلم، فإنه ليس حراً في تعريض الجنود الفرنسيين للسقوط في فخ يرفض الفرنسيون الانجرار اليه، وكان الرئيس جاك شيراك قد قام باستبعاده أصلاً، خصوصاً وأن أحد المسئولين الأمنيين يري أنه "من الطبيعي، أن يفكر كل واحد منا بأمن القوات علي الأرض". الأرض المشتعلة ولا شك أن مهمة هذا الفصل بين المقاومة تقع أولاً وأساساً علي عاتق حزب الله، لأنه هو الهدف ولأنه قادر علي الإسراع في تأكيد ارتباطه بلبنان الدولة علي درجة واحدة مع التزامه بتحرير أراضي لبنان الوطني، من الاحتلال الإسرائيلي. وكلما فعل ذلك بسرعة أسقط مصداقية مثل هذه الاتهامات التي تفتقد الشرعية أصلاً من جهة، ومن جهة أخري كسر حلقة الحصار المحكمة حوله والتي يريد البعض تحويلها الي "مشنقة" له ولدوره السياسي المستقبلي في لبنان. وهنا لا بد من الانتباه ومتابعة ودعم ما يقوم به الرئيس نبيه بري. ذلك أنه هو الملتزم التزاماً كاملاً ومتيناً بالمقاومة، بحيث لا يمكن لأحد التشكيك بمواقفه ولو قيد أنملة أو رقة الشعرة الواحدة، وهو يعود الي الينابيع الأولي متمثلاً بقول الإمام موسي الصدر مؤكداً عمق ارتباط الشيعة بالدولة في قوله "إن لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه". وفي المسار نفسه يؤكد الرئيس بري دعم التزام القرار 1701